كان هذا الكبت الذي فرضه تيبيريوس على نفسهِ، وصبره على هذه المحن، سبباً في إثارة أعصابه وضيق صدره، فأخذ يزداد انطواءً على نفسهِ، وبدت على وجهه الكآبة، وفي حديثه الصرامة، مما نفر منه الناس جميعاً، وأبعدهم عنه، اللهم إلا أصدقاءه الذين يرجون له الخير، وكان ثمة رجل واحد بدا أنه أكثر الناس وفاء له، ذلك هو لوسيوس إيليوس سجانوس Lucius Aelius Sejanus.
وأثرت في تيبيريوس خيبته وحزنه، وأضحى رجلاً حزيناً فريداً في السابعة والستين من عمره، فغادر العاصمة الهائجة المحمومة وآواى إلى كابري حيث عاش عيشة العزلة بعيداً عن سائر الناس. ولكن ألسنة السوء لم تنقطع عن الاستطالة فيه، ولم يعقها عائق عن أن تتبعه في عزلتهِ، فقال بعضهم إنه يريد أن يخفي عن أعين الناس جسمه الهزيل ووجهه الخنازيري (١)، ويطلق العنان لشهواته ورذائله غير الطبيعية (١٦). ولا شك في أن تيبيريوس كان كثير الشرب، ولكنه لم يكن سكيراً، أما قصة رذائله فأكبر الظن أنها افتراء عليه (١٧)، ويقول تاستس إن معظم من كانوا حوله من الأصدقاء في كابري كانوا من اليونان الذين لا يمتازون بشيء إلا الأدب" (١٨). وظل هو في عزلته يصرف شؤون الإمبراطورية تصريفاً حازماً حكيماً، إلا أنه كان يبلغ آراءه ورغباته إلى الموظفين وإلى مجلس الشيوخ على لسان سيجانوس Sejanus. وإذ كان المجلس يخشاه خشية متزايدة، أو يخشى سجانوس أو الحرس العسكري فقد كان يقبل رغبات الإمبراطور، ويرى أنها أوامر واجبة الطاعة. وبذلك استحالت الزعامة إلى ملكية تحت سلطان الرجل الذي عرض أن يعيد الجمهورية، ومن غير أن يحدث أي تغيير في دستور البلاد، ومن غير أن يبدو من تيبيريوس نفسه أي دليل واضح على عدم الإخلاص.
وانتهز سجانوس الفرصة التي أتيحت له فنفى عدداً كبيراً من أعدائه بعد اتهامه إياهم بتهم ينطبق عليها "قانون الخيانة" أو "قانون الجلالة" حسب اسمه
(١) المصاب بداء الخنازير وهو داء عن أعراضه انتفاخ الغدد في أجزاء مختلفة من الجسم وخاصة في العنق. (المترجم)