ككل الرواقيين يستخف بالسلطة ولا يقدر قوة الوجدان والعواطف حق قدرها، ويغاليه في قيمة العقل ويفرط في الاعتماد عليه، ويثق فوق ما يجب بالطبيعة وهي منبت جميع أزاهير الشر والخير على السواء. ولكنه جعل الرواقية فلسفة بشرية وأنزلها من عليائها حتى أضحت فلسفة حية في متنأول بني الإنسان ومهد بها للمسيحية. ولقد كان تشاؤمه، وتنديده بفساد الأخلاق في أيامه، ودعوته الناس أن يقابلوا الغضب بالحلم (٥٤)، وانشغاله بأمر الموت (٥٥)، كان كل هذا مما حمل ترتليان Tertullian على أن يقول عنه إنه "منّا"(٥٦)، كما حمل أوغسطين على أن يقول فيه "ماذا يستطيع المسيحي الصميم أن يقول أكثر مما قاله هذا الوثني؟ "(٥٧). نعم إن سنكا لم يكن مسيحياً، ولكنه في القليل طالب بالقضاء على القتل والسلب، ودعا إلى الحياة البسيطة المهذبة، وقلل ما كان هناك من فروق بين الرجل الحر والمحرر والرقيق حتى أضحت هذه الفروق لا تزيد على "الألقاب التي خلقتها المطامع أو الأخطاء"(٥٨). وكان الذي استفاد أكبر فائدة من تعاليم سنكا عبداً في بلاط نيرون وهو إبكتتس. كذلك صاغت كتاباته نرفا Nerva وتراجان إلى حد ما، وكانت أعماله مثالاً يُحتذى في السياسة الإنسانية القائمة على الإخلاص وإرضاء الضمير. وقد ظل إلى آخر العهود القديمة كما ظل طوال العصور الوسطى محبباً للجماهير؛ ولما حل عهد النهضة وضعه بترارك في المرتبة الثانية بعد فرجيل، وصاغ نثره على مثال نثر سنكا. وتجم صهر منتاني كتاباته إلى اللغة الفرنسية، وكان منتاني نفسه يقتبس من أقواله كما يقتبس سنكا من أبيقور. وكان إمرسن يقرأ مؤلفاته مراراً وتكراراً (٥٩)، حتى أضحى سنكا الأمريكيين. نعم إن الإنسان قلما يجد في أقوال سنكا أفكاراً جديدة مبتكرة، ولكن هذا يغتفر له، لأن كل الحقائق الفلسفية قديمة، ولا شيء فيها مبتكر إلا الخطأ، ولقد كان رغم أخطائه كلها أعظم الفلاسفة الرومان، كما أنه كان في كتبه على الأقل أرجحهم عقلاً وأرقهم قلباً؛ وكان بعد شيشرون أحب المنافقين إلى القلوب في التاريخ كله.