وأن شوارعها قد شقت فيها على غير نظام موضوع، لذلك كانت عاجزة عن الوفاء بأغراض السكان عجزاً يضايقهم ويسبب لهم أشد المتاعب والآلام. لقد كان عدد قليل من هذه الشوارع يختلف عرضه بين ست عشرة وتسع عشرة قدماً، أما كثرتها فكانت أزقة ملتوية من الطراز الشرقي. ويشكو جوفنال من أن عربات النقل التي تعج بها الشوارع المرصوفة أثناء الليل تجعل لنوم مستحيلاً، وأن الجماهير التي تزدحم بها طرقات المدينة تجعل السير فيها بالنهار أشبه الأشياء بالحرب والكفاح؛ "فهمها أسرعنا سد عليها الطريق جيش لجب من أمامنا، وكتل بشرية كثيفة تدفعنا دفعاً من خلفنا، فمنهم من يضربني بمرفقه، ومنهم من يدفعني بعمود هودج، هذا يسقط على أم رأسي كتلة خشبية، وذاك قارورة خمر؛ ورجلاي يغطيهما الوحل، وتطؤني أرجل ضخمة مقبلة من جميع الجهات. وهذا جندي يطأ أصابع قدمي بمسامير حذائه"(٤). وكانت الشوارع الرئيسية في المدينة مرصوفة بكتل من الحمم البركانية خماسية الأضلاع مثبتة في الأرض بقوة أمكنتها من البقاء في مكانها إلى اليوم. ولم تكن لشوارع تضاء، ولذلك كان كل من يجرؤ على الخروج من منزله ليلاً يحمل بيده مصباحاً أو يسير خلف عبد يحمل مشعلاً، ولم يكن في كلتا الحالتين بمأمن من اللصوص، وما كان أكثر عددهم في طرقات المدينة المظلمة. وكانت الأبواب تغلق بالأقفال والمفاتيح، والنوافذ تشد بالمزالج ليلاً، وما كان منها في الطابق الأرضي تحميه قضبان من الحديد كالتي تشاهد في أمثالها من نوافذ هذه الأيام. ويضيف جوفنال إلى هذه الأخطار ما كان يلقي على المارة من السوائل والجوامد من نوافذ الطبقات العليا، ويختتم حديثه بقوله إن الأبله وحده هو الذي كان يخرج من بيته للعشاء دون أن يكتب وصيته (٥).
ولم يكن بالمدينة مركبات عامة تنقل العمال من مساكنهم إلى مقر أعمالهم، ومن أجل ذلك كان معظم السوقة يقيمون في مساكن عامة من الأجر بالقرب من