الدهشة من قدرة عاهرات رومة على أن يكيفن لغتهن ومفاتنهن حسب أجناس من يترددون عليهن من هذا الخليط، وحسب أهوائهم (٢٣). وكان جوفنال يقول وهو متألم إن نهر العاصي، أكبر أنهار سوريا يصب في نهر التيبر (٢٤)، ووصف تاستس العاصمة بأنها "بالوعة أقذار العالم"(٢٥). وكانت وجوه الشرقيين، وأساليبهم، وملابسهم، وألفاظهم، وحركاتهم، وإشاراتهم، ومنازعاتهم، وأفكارهم، وعقائدهم، عنصراً كبيراً من حياة المدينة الزاخرة، وما وافى القرن الثالث بعد الميلاد حتى كانت حكومة المدينة ملكية مطلقة كحكومات البلاد الشرقية، وما وافى القرن الرابع حتى كان دين رومة ديناً شرقياً، وحتى خر سادة رومة سجداً لإله الأرقاء.
على أن هذا الحشد الخليط لم يخل من عناصر النبل والكرامة، فقد هجر بسخطه على بوبيا عشيقة نيرون في الوقت الذي صمت فيه الشيوخ فلم يجرؤا على النطق بكلمة؛ وهاجم مجلس الشيوخ ليحتج على قتل أرقاء بدونيوس سكندس جملة (٢٦)، ولم تكن الفضائل البسيطة التي يتحلى بها الرجل العادي معدومة في هذا المجتمع؛ فقد كانت حياة الأسرة اليهودية مثلاً يحتذي في الحياة الصالحة؛ وكانت الطائفة المسيحية القليلة العدد تقض بتقواها ورقة حاشيتها مضاجع العالم الوثني المنهمك في ملذاته وشهواته. لكن معظم الوافدين إلى رومة قد فسدت أخلاقهم بلا ريب حين انتزعوا من بيئاتهم، وثقافاتهم، وقوانينهم الأخلاقية التي نشأوا فيها ودرجوا عليها. وقضت أعوام الاستعباد الطوال على ما كانوا يتصفون به من احترام الذات الذي هو عماد الاستقامة والخلق الطيب، وجردهم احتكاكهم في كل يوم بطوائف من الخلائق مختلفي العادات والمشارب من كثير مما بقي لهم من أخلاق كريمة تأصلت في نفوسهم بحكم العرف المألوف والعادة. ولو أن رومة لم تبتلع هذا العدد الكبير من الناس في هذا الوقت القصير، ولو أنها ألحقت هؤلاء الوافدين كلهم بمدارسها بدل أن تلحقهم بأقذر أحيائها، ولو أنها عاملتهم على أنهم رجال ذوو مزايا كامنة في نفوسهم تستطيع الكشف عنها