للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

مما يقوله ديو (٥) - وبذلك خسرت الفلسفة الشيء الكثير. وكان صافي الذهن صريحاً ليس فيه التواء، وكان ما نطق به من الهراء قليلاً إلى أبعد حد؛ وكان فيه ما في سائر البشر من اغترار بالنفس، ولكنه كان مبرأً من العجرفة والادعاء ولم يكن يتخذ منصبه السامي وسيلة للتعاظم على الناس أو أداة ينفع بها نفسه، فكان يجلس مع أصدقاءه على الطعام ويصحبهم في الصيد، ويشرب معهم بكثرة، ويرتكب ما يرتكبونه من لواط في بعض الأحيان، كأنه يريد بذلك ألا يخالف عادات زمانه، وترى رومة من مفاخره التي يستحق عليها الثناء أنه لم يسيء قط إلى زوجته بلوتينا بأن يعشق إمرأة أخرى.

ولما وصل تراجان إلى رومة وهو في الثانية والأربعين من عمره، كان قد بلغ من النضوج العقلي غايته، وسرعان ما اكتسب ببساطته، ودماثة أخلاقه، واعتداله، قلوب الشعب الذي جرب الاستبداد من عهد قريب. واختار مجلس الشيوخ بلني الأصغر ليرحب به. وألقى ديو كريسستوم أمام الإمبراطور في الوقت نفسه خطبة فيما يجب على الملوك في نظر الفلسفة الرواقية. ولكن بلني وديو فرقاً بين السيادة والزعامة فقالا إن الزعيم يجب ألا يكون سيد الدولة، بل خادمها الأول، ومندوب الشعب لتنفيذ إرادته، ينتخبه عن طريق ممثليه أعضاء مجلس الشيوخ. "ومن أراد أن يؤمر على الناس جميعاً، وجب أن يختاروه جميعاً" (٦) واستمع الناس إلى أقوالهما ورحبوا بها.

ولم تكن هذه البدايات الطيبة جديدة في التاريخ، ولكن الذي دهش رومة أن تراجان أوفى بهذا الوعد إلى حد بعيد، فأعطى أعوانه ورفاقه القصور الريفية التي كان أسلافه يقيمون فيها أسابيع قليلة في كل عام، ويقول بلني "إنه لم يكن يرى أن شيئاً ما ملك له إلا إذا كان أيضاً ملكاً لأصدقائه" (٧). وكان هو نفسه بسيطاً في معيشته بساطة فسبازيان، فكان يسأل الشيوخ رأيهم في كل المسائل ذات البال، وقد تبين أن في وسعه أن يكون ذا سلطة مطلقة إذا لم يستخدم ألفاظ