المنكوبين، وقد وسع نطاق أعمال الإحسان القائمة في وقته حتى شملت اليتامى والأرامل؛ وكان سخياً في مناصرة الفنانين، والكُتّاب، والفلاسفة؛ وكان يجيد الغناء والرقص، والعزف على القيثارة؛ وكان مصوراً قديراً، ومثّالاً وسطاً. وقد ألف عدة كتب- منها كتاب في النحو وآخر في سيرته. ومنها قصائد مؤدبة وأخرى بذيئة (١٧)، باللغتين اللاتينية واليونانية؛ وكان يفضل الأدب اليوناني على اللاتيني ويفضل لغة كاتو الشيخ البسيطة على لغة شيشرون الفصيحة السلسة الفياضة. وقد حذا كثير من كتاب ذلك الوقت حذوه، فأخذوا يكتبون بأسلوب عتيق متكلف. وقد جمع الأساتذة الذين كانت تؤجرهم الدولة، وأنشأ منهم جامعة علمية، ورفع مرتباتهم، وشاد لهم مجمعاً علمياً فخماً لينافس به متحف الإسكندرية. وكان يسره أن يجمع حوله العلماء ورجال الفكر، ويلقي عليهم الأسئلة المحيرة، ويضحك من متناقضاتهم ومجادلاتهم العلمية. وكان فافورينس Favorinu الغالي أعظم فلاسفة هذه الندوة حكمة، وكان إذا ما سخر منه أصدقاؤه لأنه يوافق هدريان على آرائه، أجابهم بأن كل رجل يشد أزره ثلاثون فيلقاً لا بد أن يكون على حق (١٨).
ولقد جمع إلى هذه المتع العقلية الجمة إحساساً سليماً بالواجبات العملية. من ذلك أنه حذا حذو دومتيان، فلم يول معاتيقه إلا المناصب الصغيرة، واختار رجال الأعمال ذوي الكفايات المجربة، ليتولوا الإدارات الحكومية، وألف منهم ومن بعض الشيوخ وفقهاء القانون مجلساً Concilium يجتمع في أوقات منتظمة للنظر في سياسة الدولة. وعين كذلك وكيلاً للخزانة Advocatus Fisci ليكشف عما عساه أن يرتكب من فساد أو غش في شئون الضرائب، وكانت نتيجة هذا أن زادت إيرادات الدولة زيادة ملحوظة من غير زيادة في الضرائب. وكان يراقب نفسه كل إدارة من إدارات الحكومة، وقد أدهش رؤساءها، كما أدهش نابليون رؤساء إدارته، لألمامه الدقيق بتفاصيل أعمالها، ويقول إسبارتيانس إنه "كان قوي الذاكرة،