للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ضعفاً. ورأى ماركس أن الحرب وقتئذٍ حرب حياة أو موت، يهلك فيها أحد الطرفين عدوه أو يذل له. ولم يكن في وسع مخلوق أن يبدل نفسه تبديلاً تاماً من فيلسوف متصوف إلى قائد ناجح قدير إلا من نشأ نشأة رومانية عرف فيها معنى الواجب المقدس كما يفهمه الرواقيون. ولقد بقي الفيلسوف متخفياً تحت دروع الإمبراطور؛ فبينما كانت هذه الحرب المركمانية الثانية (١٦٩ - ٧٥) حامية الوطيس، وبينما كان ماركس في معسكره المواجه لقبائل القاديين على نهر جرنا (١) Granna شرع يكتب ذلك الكتاب الصغير كتاب التأملات وهو أهم ما يذكره العالم به. وهذه اللمحة التي تكشف لنا عن قديس ضعيف غير معصوم من الزلل يقلب في ذهنه مشكلتي الأخلاق والأقدار، وهو يقود جحفلاً عظيماً في صراع يقف على نتيجته مصير الإمبراطورية، نقول إن هذه اللمحة لهي صورة من أدق الصور التي حفظها الزمان لأعاظم رجاله وأصدقها. لقد كان يطارد السرماتيين بالنهار ولكنه كان في وسعه أن يكتب عنهم بالليل كتابة من يعطف عليهم: "إن العنكبوت إذا أمسك بذبابة، ظن أنه أقدم على عمل عظيم، وكذلك يظن من صاد أرنباً … أو أسر السرماتيين … أليس هؤلاء جميعاً لصوصاً؟ " (٦١).

ولكنه رغم هذا ظل يحارب السرماتيين Sarmatians، والمركمانيين، والقاديين، واليزجيين، حرباً عواناً دامت ست سنين طوالاً، ذاق فيها الأمرين. ثم هزمهم، ودفع بفيالقه إلى الشمال حتى بلغت بوهيميا. ويبدو أنه كان يبغي أن يجعل سلاسل جبال هرسينيا Hercynian والكربات الحدود الجديدة للإمبراطورية. ولو أنه نجح في تحقيق غرضه، لكان من المحتمل أن تجعل الحضارة الرومانية ألمانيا، كما جعلت غالة، لاتينية في لغتها، ويونانية في تراثها الثقافي، ولكنه روع وهو في أوج ظفره، إذ علم


(١) وأكبر الظن أنه جران Gran أحد روافد الدانوب.