للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دبر لها ما يلزمها من المال تدبيراً روعي فيه الاقتصاد الشديد، ولم يفرض عليها فيه إلا القليل الذي لا يستحق الذكر من الضرائب الإضافية؛ وبينما كانت نار الحرب مشتعلة عند الحدود، كانت التجارة رائجة في داخل المدينة، وكان رنين النقود يسمع في كل مكان فيها، لقد بلغت رومة في ذلك الوقت أوج عزها، وبلغ حب الشعب للإمبراطورية غايته، وحياه العالم كله، وكان في نظره جندياً، وحكيماً، وقديساً في وقت واحد.

ولكنه لم ينخدع بهذا النصر المؤزر، فقد كان يعرف أن مشكلة ألمانيا لم تحل بعد. وكان على ثقة من أن الإمبراطورية لن تستطيع صد الغزوات في المستقبل إلا إذا اتبعت سياسة نشيطة دفعت بها حدودها إلى جبال بوهيميا. ولذلك أقدم كمودس في عام ١٧٨ على الحرب المركمانية الثالثة، واجتاز نهر الدانوب وهزم القاديين مرة أخرى بعد حملة طويلة قاسية، لم يلق بعدها مقاومة، وأوشك أن يضم إلى الإمبراطورية بلاد القاديين، والمركمانيين، والسرماتيين (وهي بوجه التقريب بوهيميا وغاليسيا المجاورة لنهر الدانوب)، ويجعلها ولايات جديدة تابعة للإمبراطورية. ولكن المرض انتابه وهو في معسكره في فندوبونا Vindobona (فينا). ولما أحس بدنو أجله، دعا كمودس إلى جانبه، وأنذره أن يواصل السير على الخطة التي أوشكت أن تثمر ثمرتها، ويحقق حلم أغسطس، ويدفع حدود الإمبراطورية إلى نهر الإلب (١). ثم امتنع عن الطعام والشراب، ومرت به وهو على هذه الحال خمسة أيام، وفي اليوم لسادس استجمع آخر ما كان عنده من قوة، ووقف على قدميه، وقدم كمودس للجيش على أنه الإمبراطور الجديد. ثم عاد إلى فراشه، وغطى رأسه بملاءة الفرش، وأسلم الروح بعد قليل. وقبل أن يصل جثمانه إلى رومة، كان أهلها قد عبدوه واتخذوه إلهاً رضى أن يعيش على الأرض زمناً قصيراً.


(١) يقول ممسن Mommsen المعروف بنزاهته "ليس من حقنا أن نكتفي بالاعتراف بصدق عزيمة الأمبراطور وصلابته، بل إن علينا فوق ذلك أن نقر بأنه قد فعل ما توجبه عليه السياسة الرشيدة".