والحرية (١٩). وهو يظن في آخر الأمر أن الأخلاق أعظم أهمية من الحكومة، وأن عظمة الشعب لا تقاس بما لديه من قوانين بل تقاس بما فيه من رجال.
وإذا كنا لا نجد مناصاً من أن نضع تاستس في مصاف أعاظم المؤرخين، رغم ما يثير دهشتنا من أننا نجد مواعظ ومسرحيات حيث كنا نبحث عن التاريخ، فما ذلك إلا لأن قوة فنه تعوضه عن ضيق نظرته. فنظرته قوية، وأحياناً عميقة، وهي دائماً واضحة، والصور التي يرسمها أكثر وضوحاً، وهي حين تخطو على مسرح التاريخ أكثر حيوية من أية صور أخرى في الأدب التاريخي. على أن هذه الصور نفسها لا تخلو من نقائص وعيوب. فتاتس يؤلف من عنده خطباً لشخصياته المختلفة ويؤلفها كلها بطريقته الخاصة وبنثره الفخم. فهو يصف جلباً بالبلاهة ثم ينطقه بما ينطق به الحكماء (٢٠). وهو لا يرقى إلى ذلك الفن الصعب الذي يمكنه من أن يجعل شخصياته تنمو وتكمل على مر الأيام؛ فتيبير يوس مثلاً في بداية حكمه هو بعينه تيبيريوس في آخره، وإذا كان يبدو إنساناً رحيماً في البداية، فإن ذلك في رأي تاستس نفاق وخداع.
وأهم ما يمتاز به تاستس هو روعة أسلوبه، فلسنا نجد كاتباً غيره قد قال كل ما قاله بمثل إحكامه. ولسنا نقصد من هذا أن عبارته كانت موجزة فهو على عكس هذا مسهب كثير الاستطراد، يشغل ٤٠٠ صفحة من تواريخه لتدوين حوادث عامين اثنين. وتراه أحياناً يفرط في التركيز حتى يبلغ حد التكلف أو الغموض، وحتى تتطلب كل كلمة ثانية جملة تترجم بها؛ وكأن الأفعال وحروف العطف عنده ليست إلا عكازات للعقول الكليلة. وهذا الأسلوب هو النتيجة التي أدى إليها أسلوب سالست Sallust الموجز السريع، ونكات سنكا القصيرة المحكمة، والجمل القصيرة المتزنة التي كانت تعلم في مدارس البلاغة. وهو أسلوب، إذا كتب به كتاب طويل، ولم تتخلله فقرات أكثر من فقراته اعتدالاً، يثير عقل القاريء وينهكه، ولكنه مع ذلك يعود إليه ويزداد به