بسبب نماء سلطان الدولة واتساع دائرة اختصاصها، ونضبت موارد ثروة الأمم بما فرض عليها من الضرائب التي أخذت أعباؤها تزداد زيادة مستمرة على مر الأيام، لكي تقاوم بها بيروقراطية تضاعف نفسها، وبسبب حروب العدوان التي ما فتئت الدولة تثير عجاجها للدفاع عن نفسها. وأخذت ثروة إيطاليا المعدنية تتناقص (٧)، وقضت الأوبئة والمجاعات على الكثيرين من أهلها، وظهر عجز نظام الزراعة باستخدام الأرقاء، وأقفرت خزانة الدولة من الأموال وانحطت قيمة العملة بسبب الزيادة المطردة في نفقات الحكومة وفي إعانة العجزة والمساكين. وأخذت الصناعات الإيطالية تخسر أسواقها في الولايات لمنافسة الولايات نفسها لهذه الصناعة، ولم توضع قط سياسة اقتصادية حكيمة لتعوض البلاد عن التجارة الأجنبية الكاسدة بتوزيع قوة الشراء في داخل البلاد على نطاق أوسع من ذي قبل. وبينما كان هذا يحدث في إيطاليا نفسها كانت الولايات قد أخذت تفيق مما أصابها من جراء انتزاع ثروتها على أيدي صلا، وبمبي، وقيصر، وكاسيوس، وبروتس، وأنطونيوس؛ فعاد إليها حذقها القديم، وازدهرت صناعاتها، وأخذت ثروتها الجديدية تعين بالمال العلم والفلسفة والفن. وسد أبناؤها ما حدث في الفيالق من فراغ، وعقدت أولوية هذه الفيالق للقواد من أهلها؛ وما لبثت جيوش الولايات أن وضعت إيطاليا تحت رحمتها وعينت قوادها أباطرة، وانقضى عهد الفتوح وانقلبت الآية وأخذ المغلوبون من ذلك الحين يبتلعون الغالبين.
وكأنما أدرك عقل رومة هذه النذر والمشاكل، فاستسلم في أواخر أيام الأنطونيين إلى عهد من الكلل الثقافي والروحي. وكان حرمان الجمعيات الشعبية أولاً ثم مجلس الشيوخ بعدئذ من سلطانها حرماناً يكاد أن يكون كاملاً قد ذهب بالحافز الذهني الذي ينبعث من النشاط السياسي الحر، ومن الشعور الواسع الانتشار بالحرية والسلطان. وإذ كانت السلطة كلها تقريباً قد تركزت في يد الزعيم فقد ألقى المواطنون عليه التبعة كلها تقريباً، فانزوى عدد متزايد