ووجدت الآداب فيها سوطاً جديداً يعبر عنها. وحسبنا دليلاً على ما بلغته أفريقية الرومانية من الرقي والثراء أن نشاهد آثار ما خلّفه الرومان من أسواق وهياكل وقنوات لجر مياه الشرب للمدن، ودور للتمثيل في أرض أصبحت الآن قفراً يباباً. ذلك أن هذه الحقول النادرة قد استحالت الآن صحارى رملية. ولم يكن سبب هذا التغيير الجو بل كان سببه تبدل الحكم - من دولة تضمن للبلاد الأمن الاقتصادي والنظام إلى أخرى تركت العنان للفوضى والإهمال يخربان الطرق والخزانات وقنوات الري.
وكان على رأس هذا الرخاء المستعاد مدينة قرطاجنة التي بعثت وقتئذ بعثاً جديداً. ذلك أن أغسطس قد احتضن بعد وقعة أكتيوم مشروع كيوس وقيصر الذي أخفق من قبل، وأرسل إلى قرطاجنة بعض الجنود الذين أراد أن يعوضهم عم إخلاصهم وانتصاراتهم أرضاً يهبها لهم. وسرعان ما انتزعت قرطاجنة مرة أخرى من يتكا تجارة الإقليم الصادرة منه والواردة إليه، وذلك بفضل موقعها الجغرافي الممتاز، ومرفأها الجيد، ودال نهر بجرداس الخصبة، والطرق الصالحة التي أنشأها المهندسون والرومان أو أعادوا فتحها؛ ولم يمضِ على تأسيس المدينة الجديدة قرن واحد حتى أضحت أكبر مدائن الولايات الغربية، وأقام أغنياء التجار والملاك قصوراً فخمةً على تل برسا Byrsa التاريخي، أو بيوتاً صغيرة ذات حدائق في الضواحي الشجراء؛ أما الفلاحون الذين تركوا الأرض لعجزهم عن منافسة أصحاب الضياع الكبرى فقد انضموا إلى صعاليك المُدن وإلى الأرقاء، وعاشوا في أحياء وبيوت قذرة حياة العدم والفاقة التي جعلتهم يرحبون فيما بعد بدعوة المسيحية إلى المساواة. وقامت البيوت في المدينة من ست طبقات أو سبع، وتلألأ الرخام في المباني العامة، وغصت الشوارع والميادين بالتماثيل المنحوتة على الطراز اليوناني. وشُيّدت الهياكل من جديد للآلهة القرطاجنيين القديمة، وظل ملكارت Melkart حتى القرن الثاني بعد الميلاد يستمتع بالضحايا