للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإشراق والوضوح حداً لا يظن معه إنسان أنه يكتب الفلسفة. وكان مولده في سموساتا Samosata من أعمال كمجيني Commagene البعيدة، وكأنه قد وُلِد في هذا المكان بالذات ليدلنا على مدى انتشار الهلنستية. وقد قال عن نفسه: "أنا سوري من بلاد الفرات". وكانت لغته الأصلية هي السريانية، وأكبر الظن أن الدم الذي كان يجري في عروقه هو الدم السامي (٥٨). ثم أُرسل ليتمرّن على النحت عند مثّال؛ ولكنه ترك النحت وأخذ يدرس البلاغة؛ وبعد أن أقام في إنطاكية يمارس صناعة المحاماة شرع يتجوّل في الطرقات كما يفعل "العالم المستقل"، يكسب عيشه بإلقاء المحاضرات، وخاصة في روما وغالة؛ ثم ألقى عصا التسيار في أثينة (عام ١٦٥ م)، وأنجاه ماركس أورليوس الورع المتسامح من الفقر في آخر أيامه، وعيّن المتشكك غير المحترم في منصب رسمي في مصر، حيث مات في تاريخ غير معروف.

وقد أبقت الأيام على ستة وسبعين كتاباً من كتب لوشيان الصغيرة، وكثيٌ منها لا يقل حدة ومناسبة لأحوال هذا العصر عما كانت عليه حين كان يقرؤها على أصدقائه ومستمعيه قبل ثمانية عشر قرناً من الزمان. وقد أخذ يجرّب أفانين مختلفة من الكتابة حتى عثر أخيراً على أسلوب الحوار الممتع الظريف. وقد بلغ كتابه محاورات الحظيات من التحرر درجة جعلت له كثيرين من القرّاء، ولكنه كان في كتبه على الأقل أكثر انهماكاً في الآلهة منه في الحظيات؛ وهو لا يفرغ قط من الإساءة إليهن. وفي كتابه هذا على لسان منبس Menippus: " كُنتُ وأنا غلام أستمع إلى قصص هومر وهزيود عن الآلهة - الآلهة الزانين، الآلهة الجشعين النهّابين، الآلهة العنيفين المتنازعين، مرتكبي الفحشاء مع المحارم. ولم أكُن أجد في هذا كله مأخذاً، بل إني في واقع الأمر وجدتُ فيه متعة عظيمة؛ ولكني حين بلغت سن الرشد وجدت الشرائع تناقض أقوال الشعراء مناقضة تامة، فتحرّم الزنى والسلب والنهب".