يفعلون ذلك لتقريبه من خيال البشر الحسّي. والله موجود في كل مكان:"وهل ثمة مكان يستطيع الإنسان أن يجده وليس الله فيه؟ "(١٥) ولكنه ليس كل شيء، فالمادة أيضاً سرمدي، وغير مخلوقة؛ ولكنها لا تكون لها حياة، ولا حركة، ولا صورة، حتى تنبعثُ فيها القوّة الإلهية.
ولكي يخلق الله العالم بأن يشكّل المادة، ويوجد الصلات بينه وبين الإنسان، إستخدم لذلك جمعاً من الكائنات الوسطى يسميها اليهود ملائكة ويسميها اليونان شياطين diamones ويسميها أفلاطون أفكاراً. ويقول فيلو إن في وسعنا أن نتصوّر هذه الكائنات في صورة أشخاص، وإن كانت في واقع الأمر لا وجود لها إلا في العقل الإلهي بوصفها أفكار الله وقواه (١٦) وهي مجتمعة تكون ما يسميه الرواقيون الكلمة أو العقل الإلهي خالق العالم وهاديه. وكان فيلو يتأرجح بين الفلسفة واللاهوت، وبين التجريد والتجسيد، ولهذا كان يفكر في العقل الإلهي مرة كأنه شخص وفي ساعة من ساعات نشوته الشعرية يسميه أول ما ولد الله" (١٧). وغبن الله من الحكمة العذراء (١٨)، ويقول إنه عن طريق الكلمة كشف الله عن نفسه للإنسان. وإذا كانت الروح في رأيه جزءاً من الله، فإن في وسعها أن تسمو عن طريق العقل فترى الكلمة رؤيا صوفية، وإن كانت لا ترى الله نفسه؛ وربما كان في وسعنا إذا تحررنا من دنس المادة والحس، وتدرّبنا على الزهد والتفكير الطويل، أن نصبح في ساعة من الساعات روحاً خالصة، وأن نرى الله نفسه في لحظة من لحظات النشوة (٩).
ولقد كانت "عقيدة العقل الإلهي" التي يقول بها فيلو من الآراء ذات الأثر الأكبر في تاريخ التفكير البشري. ولرأيه هذا سابقات واضحة في فلسفة هرقليطس وأفلاطون، والرواقيين؛ وأكبر الظن أنه كان يعرف الآداب اليهودية التي نشأت في العصر القريب من عصره، والتي جعلت من حكمة الله بوصفه خالق الكون شخصاً محدداً مميزاً، وما من شك في أنه قد انطبعت في عقله