دون أن تلقاه مدينة رَفَح (رافيا)، وغزّة، وعسقلان، ويافا (جبا)، وأبلونيا، والسامرة، وقيصريّة. وكانت هذه المُدن رغم وجودها في فلسطين نصف يونانية في سكانها، تسودها لغة اليونان وثقافتهم وأنظمتهم. فكانت والحالة هذه بمثابة جسور تنتقل عليها الهلنستية في غزوها الوثني لبلاد اليهود. وأنفق هيرود أموالاً طائلة في جعل مدينة قيصرية خليق بأغسطس الذي سميّت باسمه، فأنشأ لها مرفأ صالحاً جميلاً، ومعبداً شامخاً، وملهى ومدرجاً، وأقام فيها قصوراً فخمة وصروحاً كثيرة من الحجر الأبيض (٤٢). وأنشئت في داخل البلاد مُدن أخرى يونانية فلسطينية ليفياس Livias، وفلادلفيا، وجراسا، وجندارا (قطة Katra) . وفي جراسا مائة عمود هي كل ما بقي من العُمَد التي كانت قائمة على جانبي شوارعها الرئيسية؛ وإن خرائب هياكلها، وملهاها، وحمّاماتها، ومجرى مائها لتنطق بما كانت عليه المدينة من الثراء في القرن الثاني بعد الميلاد.
وكانت جدارا، التي تتردد في خرائب ملهاها صدى ذكريات المسرحيات اليونانية، تشتهر بمدارسها، وأساتذتها، ومؤلفيها. وفيها عاش في القرن الثالث قبل الميلاد منبس Menippus الفيلسوف والفكاهي الكلبي الذي يعلم بهجائه أن كل شيء عدا الحياة الصالحة باطل، والذي كان مثالاً احتذاه لوسليوس، وفارو، وهوراس. وفي هذه المدينة "أثينة سوريا" أنشأ مليجر، أنكريون زمانه، قبل ميلاد المسيح بنحو ألف عام تلك المقطوعات الشعرية المصقولة التي كان يتغزّلُ فيها بجمال النساء والغلمان. وظلّ يكتب قصائد الحب حتى كلّ قلمه:
"ما أحلى ابتسام الكأس للحبيب العزيز، بعد أن مسّها فم
زنوفيلا Zenophila الجميل. وما أسعدني إذا وضعت شفتيها
الورديتين على شفتيَّ، وعبت روحي عباً في عناق طويل" (٤٣).