للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

به المؤامرات التي هي من خصائص القصور الشرقية (١)، فاحتاط لها بأن كان يتجرّع قليلاً من السم في كل يوم، حتى كانت له حصانة من معظم أنواع السم التي كانت في متناول المقرّبين إليه. وقد كشف في أثناء تجاربه هذه كثيراً من العقاقير المضادة للسم والشافية منه. ثم امتدّت هواياته من هذا إلى الطب بوجه عام، فجمع فيه معلومات بلغ من قيمتها أن أمر بمبي بترجمتها إلى اللغة اللاتينية وكانت حياته البرية الصارمة قد أكسبته قوة في الجسم وفي الإرادة؛ وأن بلغ من الفخامة درجة رأى معها أن يُرسل دروعه السابقة إلى دلفي ليشاهدها العابدون. وكان فارساً ماهراً، ومحارباً شجاعاً، ويؤكّد لنا عارفوه أنه كان في مقدوره أن يعدو بسرعة يدرك به ظباء الفلاة، وأنه يستطيع أن يسوق عربة يجرّها ستة عشر جواداً، ويقطع مائة وعشرين ميلاً في اليوم الواحد (٦٥). وكان يفخر بقدرته على أن يأكل أكثر مما يأكل أي إنسان آخر ويشرب أكثر مما يشرب، وكان له عدد كبير من النساء. ويقول المؤرخون الرومان إنه كان قاسي القلب، غدّاراً، وإنه قتل أمه، وأخاه، وثلاثة من أبنائه، وثلاثاً من بناته (٦٦)، ولكن روما لم تنقل لنا ما عسى أن يقوله هو دفاعاً عن نفسه. ولقد كان مثقّفاً بعض الثقافة، في مقدوره أن يتكلّم اثنتين وعشرين لغة، ولم يستخدم قط مترجماً بينه وبين من يتحدّث إليه من الأجانب (٦٧). وقد درس الآداب اليونانية، وكان مولعاً بالموسيقى اليونانية، وأغنى بالمال والنفائس الهياكل اليونانية، وكان في بلاطه عدد كبير من علماء اليونان، وشعرائهم، وفلاسفتهم وقد جمع كثيراً من التحف الفنية، وسكَّ نقوداً ذات أشكال جميلة ممتازة. ولكنه لم يتورّع عن الشهوانية والفضفاضة التي كان يمتلئ بها جوّه النصف


(١) مما يؤسف له أن المؤلف ينسى من آن إلى آن صفة المؤرخ النزيه ليغمز الشرق غمزات كان خليقاً به أن يُنزّه قلمه عنها. لسنا نعلم أن الشرق قد اختصّت قصور ملوكه بالدسائس، وفي التاريخ كثير من الشواهد على أن هذه الدسائس لم تكن تقل في قصور ملوك الغرب عنها في الشرق. (المترجم)