في مقدورها أن تنطلق من هذا التجسد الثاني المشين بأن تسمو حتى تتحد اتحاداً هيامياً بديونيشس. وكان الإخوان الأرفيون في اجتماعهم يشربون دم ثور يضحّون به للمنقذ الميّت الذي يكفّر عن خطاياهم ويوحّدون بينه وبين هذا المنقذ. وكان الاشتراك الجماعي في تناول الطعام والشراب المقدّسين من المظاهر الكثيرة الحدوث في أديان البحر الأبيض المتوسط، وكثيراً ما كان أهل هذه الأديان يعتقدون أن هذا الطعام ستحل فيه بهذا التقديس قوى الإله، ثم تنتقل منه بطريقة سحرية خفية إلى المشتركين في تناوله (٩٦).
وكانت الشِيَع الدينية كلها تؤمن بالسحر، فقد نشر المجوس فنهم هذا في أنحاء الشرق وسموا الشعوذة القديمة باسم جديد؛ وكان عالم البحر الأبيض المتوسط غنياً بمن فيه من السحرة، وصانعي المعجزات، والمتنبئين، والمنجّمين، والزهّاد القدّيسين، ومفسّري الأحلام العلميين. وكانت كل حادثة غير عادية تُتّخذ نذيراً إلهياً بما سيقع من الحوادث في المستقبل، وأصبح لفظ أسكسيز Askesis، الذي كان معناه عند اليونان تدريب الجسم تدريباً رياضياً، يقصد به وقتئذ إخضاع الجسم لسلطان الروح؛ فكان الناس يضربون أنفسهم بالسياط، ويبترون أعضاءهم، ويجيعون أنفسهم، أو يقيدون أجسامهم بالسلاسل في كل مكان. ومنهم من كانوا يموتون نتيجة لهذا التعذيب أو الحرمان (٩٧) الذاتي. ولجأ جماعة من اليهود وغير اليهود رجالاً ونساء إلى الصحراء المصرية القريبة من بحيرة مريوط. يعيشون فيها منفردين في صوامع وبيَع، ويحرّمون على أنفسهم جميع العلاقات الجنسية، ويجتمعون في يوم السبت للصلاة الجامعة ويسمون أنفسهم معالجي النفوس (Therapeutae) (٩٨) . وقال الملايين من الناس إن الكتابات المعزوة إلى أرفيوس، وهرمس، وفيثاغورس، والعرافات ومن إليهم قد أملاها أو أوحى بها إله من الآلهة. وكان الوعاظ الذين يدعون أن الوحي قد هبط عليهم من السماء يجوبون الأقطار متنقلين من مدينة إلى مدينة،