من تلقاء نفسه إلى الشفتين إذا ما صادف الإنسان سرور عظيم أو حلّت به كارثة أليمة. ومن أجل هذا كان الناس رجالهم ونساؤهم على السواء يجدون لهم سلوى وملجأ في إيزيس وسيبيل، بل ان العابد التقي في بلاد البحر الأبيض المتوسط في هذه الأيام يلجأ إلى مريم أكثر مما يلجأ إلى الأب أو الإبن، وإن الصلاة المحببة التي يرددها أكثر من سائر الصلواة هي الصلاة التي لا يوجهها إلى العذراء بل إلى الأم التي بورك فيها بمن ولدته من بطنها.
ولم تكن قوة الأديان الجديدة مقصورة على أنها أعمق أثراً في قلوب الناس بل كان من أسباب قوتها فوق ذلك أنها أعظم أثراً في خيال الناس وحواسهم لما فيها من مواكب، وترانيم، تتنقل من الحزن إلى السرور، وما تحتويه من طقوس ذات رموز تنطبع في الخيال وتبعث الشجاعة من جديد في النفوس التي أثقلتها الحياة الرتيبة المملّة. ولم تكن مناصب الكهانة الجديدة يملؤها ساسة يرتدون الثياب الكهنوتية من حين إلى حين، بل كان يشغلها رجال ونساء من كافة الطبقات، يتدرّجون فيها من المبتدئ المتقشّف الزاهد إلى الخادم الديني الذي لا ينقطع عن مواساة الناس. وكان في مقدور الروح التي تدرك ما ارتكبته من ذنوب أن تتطهّر منها، وكان يستطاع في الأحيان شفاء الجسم الذي أنهكته العلة، بكلمة أو طقس موج؛ وكانت المراسم السرية الخفية التي يمارسونها ترمز إلى ما يتردد في صدور الناس من رجاء في أن يتغلّبوا على كل شيء حتى الموت نفسه.
لقد سما الناس في وقت من الأوقات بما كانوا يتوقعون له من عظمة وخلود، فجعلوهما مرتبطين بمجد الأسرة والقبيلة والإبقاء عليهما، ثم انتقلوا بهما إلى مجد الدولة التي كانت من صنعهم والتي هي نفوسهم مجتمعة. أما في الوقت الذي نتحدث فكانت الحدود الفاصلة بين القبائل تذوب في حركة السلم الجديد، ولم تكن الدولة الإمبراطوريّة تعبر إلا عن الطبقات العليا السائدة، ولم تكن تمثل