يعرف الأدب اليوناني ويحبه، ويدعو إلى مبادئ أخلاقية بسيطة ولكنها صارمة. وكان يتوسل إلى الآلهة بقوله:"علّميني ألا يكون لي إلا القليل وألا أرغب في شيء" ولما سأله أحد الملوك أن يختار لنفسه هدية يهديها إليه أجابه بقوله: "الفاكهة اليابسة والخبز"(١٠٢). وكان يبشر بتجسد الروح بعد مفارقتها الجسد، ولهذا أمر أتباعه ألا يؤذوا مخلوقاً حياً، وأن يمتنعوا عن أكل اللحم؛ وحضهم على تجنب العداء، واغتياب الناس، والغيرة، والكراهية؛ ومن أقواله لهم:"إذا كنا فلاسفة، فلن نستطيع أن نكره بني جنسنا"(١٠٣). ويقول فيلوستراتس إنه "كان في بعض الأحيان يناقش المبادئ الشيوعية ويعلم الناس أن من واجبهم أن يعين بعضهم بعضاً". ولما اتُّهم بأنه يثير نقع الفتنة، ويعلم الناس السحر، جاء طائعاً إلى روما ليبرئ نفسه أمام دومتيان من هاتين التهمتين، فسُجن، ولكنه فرّ من سجنه. ومات حوالي سنة ٩٨ م. بعد أن عمّر طويلاً. وادعى أتباعه أنه ظهر لهم بعد موته وأنه رفع بعدئذ إلى السماء (١٠٥).
ترى ما هي الصفات التي جعلت نصف روما ونصف الإمبراطوريّة ينضويان تحت ألوية هذه الأديان الجديدة؟ من هذه الصفات ما تنظوي عليه هذه الأديان من عدم التفرقة بين الأجناس والطبقات؛ فقد كانت تقبل بين أتباعها خلائق من جميع الأمم، وجميع الأحرار، وجميع الأرقّاء، ولا تلقى بالاً إلى ما بين الناس من فروق في الأنساب أو الثراء، وكان هذا من أسباب السلوى لهؤلاء الأتباع. وقد بُنيت هياكلها بحيث تتسع لكل من يؤمها من الخلائق العباد وللإله المعبود. وكانت سيبيل وإيزيس إلهتين أمين ثاكلتين ذاقتا مرارة الحزن كما ذاقته ملايين الأمهات الثاكلات، وكان في مقدورهما أن تدركا ما لا تستطيع أن تدركه الآلهة الرومانية- ألا وهو فراغ قلوب المغلوبين. إن الرغبة في العودة إلى أحضان الأم أقوى من غريزة الاعتماد على الأب، واسم الأم هو الذي يخرج