وإذا كانت الشريعة قد أصبحت وقتئذ الرابطة القوية التي لا غنى عنها والتي تؤلف بين اليهود المشتتين الذين لا تؤلف بينهم دولة، فقد أصبح تعليم هذه الشريعة أهم عمل تقوم به الكنائس في جميع البلاد التي شتتت فيها اليهود. وحل المجمع محل الهيكل، كما حلت الصلاة محل التضحية، وحل الربان محل الكاهن. وأخذ الشراح (التنايم) يفسرون مختلف القوانين اليهودية المنقولة بطريق السماع (هلاكا) وكانوا يؤيدون شروحهم في العادة بعبارات يقتبسونها من الكتاب المقدس، يضيفون إليها قصصاً وعضات أو غيرها من المواد (هجاداً) ويوضحونها بها في بعض الأحيان. وأشهر هؤلاء التنايم هو الربان عكيبا بن يوسف. وقد انضم هذا الربان، وهو في سن الأربعين، إلى ابنه البالغ من العمر خمس سنين، وذهبا معاً إلى المدرسة فتعلم القراءة، واستطاع في زمن قليل أن يتلو عن ظهر قلب جميع أسفار موسى. وبعد دراسة دامت ثلاثة عشر عاماً افتتح له مدرسة تحت شجرة تين في قرية قريبة من يمنيا. وقد كانت حماسته، ومثاليته، وشجاعته، وفكاهته، بل وتعسفه الشديد سبباً في التفاف كثيرين من الطلاب حوله. ولما جاءت الأنباء في عام ٩٥، أن دومتيان سيتخذ إجراءات جديدة ضد اليهود، اختير أكيبا وجماليل واثنان آخران من اليهود ليتصلا اتصالاً شخصياً بالإمبراطور. وبينما هم في روما إذ توفي دومتيان. واستمع نيرفا إلى رسالتهم وأظهر العطف على مطالبهم، وألغى الضريبة المفروضة على اليهود لإعادة بناء روما.
ولما عادة أكيبا إلى يمنيا أخذ على عاتقه أن يقوم بذلك العمل الشاق الذي قضى فيه بقية حياته ونعني به تقنين الهلاكا، وأتم هذا العمل من بعده تلميذه الربان مير Meir وخليفتهما الأب يهوذا (حوالي ٢٠٠ م). وقد بقيت الهلاكا حتى في هذه الصورة المصنفة جزءاً من الأحاديث الشفوية، يتناقلها العلماء والحفاظ المحترفون جيلاً بعد جيل - فكانوا هم النصوص الحية للشريعة الموسوية.