وكانت هذه الأفكار كلها مألوفة لسامعيه، ولهذا فإن المسيح لم يحددها تحديداً واضحاً، ومن ثم نشأت في وقتنا هذا صعاب جمة سببها ما في هذه الأفكار من غموض. ترى ماذا كان يعني بملكوت السموات؟ أهي سماء خيالية خارجة عن مألوف الطبيعة؟ يخيل إلينا أنها لم تكن كذلك، لأن الرسل والمسيحيين الأولين كانوا على بكرة أبيهم ينتظرون أن توجد مملكة أرضية، وكانت هذه هي الرواية اليهودية التي ورثها عنهم المسيح، ومن أجل هذا كان يعلم أتباعه أن يصلّوا إلى الأب قائلين "ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض".
ولم ينطق إنجيل يوحنا المسيح بقوله إن "مملكتي ليست من هذا العالم"(٦٧) إلا بعد أن خبا هذا الأمل. فهل كان يعني بها حالة روحية أو طوبى مادية؟ لقد كان يتحدث في بعض الأحيان عن ملكوت الله في وصفها حالة من حالات الروح يصل إليها الأطهار المبرؤون من الذنوب- "ملكوت الله داخلكم"(٦٩)، وكان في أحيان أخرى يصورها كأنها مجتمع سعيد في مستقبل الأيام، حكامه هم الرسل، ويأخذ من أعطي أو أوذى في سبيل المسيح مائة ضعف (٧٠). ويبدو أنه لم يكن يرى أن ملكوت الله هي الكمال الخلقي إلا مجازاً، وأنه يرى أن هذا الكمال الخلقي إنما هو إعداد لهذا الملكوت وثمن يؤدى للحصول عليه، وأنه هو الحال التي تكون عليها حميع الأرواح الناجية في الملكوت إذا ما تحقق (٧١).
ومتى يحين موعد هذا الملكوت؟ قريباً "الحق أقول لكم إني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حين أشربه جديداً في ملكوت الله". ومن أقواله لأتباعه:"لا تكملون مُدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان"(٧٢). ثم أخره قليلاً فيما بعد:"إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا إبن الإنسان آتياً في ملكوته"(٧٤)؛ "لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا