ذلك رمز خليق بنصره. لقد مات الإمبراطور الذي قضى بإعدامه ميتة الجبناء، وسرعان ما زال من الوجود كل أثر لأعماله التي أسرف في إقامتها أيما إسراف، أما بولس المغلوب على أمره فهو الذي شاد صرح المسيحية الديني، كما أنه هو وبطرس وضعا نظام الكنيسة العجيب. لقد عثر بولس في خبايا اليهودية على حلم يصور لليهود فلسفة الحشر والنشر، فحرره ووسع نطاقه، وجعله عقيدة ذات قوة تستطيع أن تحرك العالم بأسره، واستطاع بصبره الشبيه بصبر رجال السياسة أن يمزج مبادئ اليهود الأخلاقية بعقائد اليونان فيما وراء الطبيعة؛ وأوجد طقوساً خفيفة جديدة، ووضع مسرحية للحشر جديدة استوعبت كل ما سبقها من مسرحيات تصور هذه العقيدة، وعاشت بعدها كلها، وأحل العقيدة محل العمل في اختبار الفضيلة، وكان من هذه الناحية بداية العصور الوسطى. ولسنا ننكر أن هذا كان تغييراً يُؤسف له كل الاسف، ولكن لعل الإنسانية هي التي شاءت أن يكون؛ ذلك أن الذين يستطيعون أن يحذوا حذو المسيح هم أقلية من القديسين. ولكن نفوساً كثيرة قد تستطيع أن تسمو بآمالها في الحياة الخالدة إلى مستوى رفيع من الإيمان والشجاعة.
ولم يشعر معاصرو بولس بأثره في التو والساعة، لأن الجماعات التي أنشأها كانت أشبه بجزائر صغرى في بحر الوثنية الواسع الخضم، ولأن كنيسة روما كانت من صنع بطرس وبقيت وفية لذكراه، ومن أجل هذا ظل بولس مائة عام كاملة بعد موته لا يكاد يذكره إنسان. فلما انقضت الأجيال الأولى من المسيحيين، وأخذت أحاديث الرسل الشفهية تضعف ذكراها في الأذهان، وأخذ العقل المسيحي يضطرب بمئات من عقائد الزيغ والظلال؛ لما حدث هذا أضحت رسائل بولس إطاراً لمجموعة من العقائد أضفت على الجماعات المتفرقة اتزاناً وألفت منها كنيسة واحدة قوية.
ومع هذا كله بقي الرجل الذي فصل المسيحية عن اليهودية من حيث