لكنه كان ينقصه العلماء الأعلام، فلم يكن فيه رجال يفخر بهم أمثال ترتليان، وأرجن، وسبريان؛ وكان يعنى بالتنظيم أكثر ما يعنى باللاهوت، فكان يبني ويحكم، ويترك الكتابة والكلام لغيره. وعصاه سبريان ولكن سبريان هو الذي نادى في كتابه الكنيسة الكاثوليكية الموحدة بأن كرسي بطرس أو مقره هو مركز العالم المسيحي وأعلى مكان فيه، وأعلن إلى العالم مبادئ التضامن، والإجماع، والثبات التي كانت ولا تزال أساس الكنيسة الكاثوليكية وعمادها (٧٤). وقبل أن ينتصف القرن الثالث كان مركز البابوية ومواردها المالية قد بلغا من القوة حداً جعل ديسيوس يقسم أنه يفضل أن يكون في روما إمبراطور ثانٍ ينافسه على أن يكون فيها بابا (٧٥). وهكذا أصبحت عاصمة الإمبراطوريّة عاصمة الديانة المسيحية.
وأمدّت روما المسيحية بالنظام كما أمدّتها اليهودية بمبادئها الخلقية وكما أمدّتها بلاد اليونان بفلسفتها الدينية. وقد دخلت هذه كلها في بناء الدين المسيحي مع ما دخله وما امتصه من الأديان المعارضة. ولم يكن كل ما أخذته الكنيسة من روما هو العادات والمراسم الدينية التي كانت سائدة في روما قبل قيام المسيحية- كالبطرشيل وغيره من ثياب الكهنة الوثنيين، واستعمال البخور والماء المقدس في التطهير، وإيقاد الشموع ووضع ضوء دائم لا ينطفئ أمام المذبح، وعبادة القديسين، وهندسة الباسلقا، وقوانين روما التي اتخذتها أساساً للقانون الكنسي، ولقب الحبر الأعظم Pontifex Maximus الذي أُطلق على كبير الأساقفة مضافاً إلى اللغة اللاتينية التي أَوضحت في القرن الرابع الأداة الخالدة النبيلة للشعائر الكاثوليكية؛ بل كان أهم من هذا كله نظام الحكم الواسع الذي أمسى بعد عجز السلطة الزمنية صرح الحكم الكنسي، فلم يلبث الأساقفة، لا الحكام الرومان، أن صاروا هم مصدر النظام ومركز القوة والسلطان في