لم يكن له مثيل في التاريخ الروماني كله. لقد كان الشعب في الأيام الخالية يدفع الدولة إلى القضاء على المسيحية؛ أما الآن فقد وقف الشعب بعيداً عن الحكومة، وعرض كثيرون من الوثنيين أنفسهم للموت بحماية المسيحيين أو إخفائهم حتى تنجلي هذه العاصفة (٢٤). وقد انجلت فعلاً في عام ٣١١، ففي ذلك العام أصدر جليريوس مرسوماً بالتسامح مع المسيحيين واعترف فيه بالمسيحية ديناً مشروعاً، وطلب إلى المسيحيين أن يدعوا له في صلواتهم نظير "رحمتنا التي وصلت إلى أقصى حدود الرقة"(٢٥). وكان الباعث له على إصدار هذا المرسوم رجاء زوجته وتوسلها له أن يصالح إله المسيحيين الذي لم يهزم؛ وكان جليريوس، وقتئذ يشكو من داء عضال، ويوقن بإخفاقه في القضاء على المسيحية.
وكان اضطهاد دقلديانوس أشد ما ابتليت به الكنيسة المسيحية، كما كان في الوقت نفسه أعظم انتصار نالته على أعدائها. نعم إن هذا الاضطهاد أضعفها إلى حين، بعد أن خرج منها بعض من انضموا إليها أو نشئوا في أحضانها خلال خمسين عاماً من أعوام الرخاء لم يتعرض لهم فيها أحد بسوء؛ ولكن سرعان ما أخذ المرتدون يتوبون عن ذنبهم ويطلبون العودة إلى حظيرتها، ذلك أن أخبار وفاء الشهداء الذين قضوا نحبهم، أو عذبوا في سبيل دينهم، أخذت تنتشر من مكان إلى مكان. ونسجت حول أعمال الاستشهاد هذه قصص خيالية مبالغ فيها مثيرة للعواطف محركة للنفوس، كان لها شأن أيما شأن في إحياء العقيدة المسيحية، وتثبيت دعائمها. وفي ذلك يقول ترتليان "إن دم الشهداء هو البذور" التي نبتت منها المسيحية (٢٦). وليس في تاريخ البشرية قصة أعظم روعة من فئة قليلة من المسيحيين توالت عليها ضروب الظلم والازدراء على يد سلسلة طويلة من الأباطرة، لكنها صبرت على هذه المحن جميعها واستمسكت بدينها، وتضاعف عددها وهي هادئة ساكنة، تقيم النظام وقت أن كان أعداؤها ينشرون الفوضى، تصد القوة بالقوة، والوحشية بالأمل، ثم تُهزِم آخر الأمر أقوى دولة عرفها التاريخ. لقد التقى قيصر والمسيح في المجتلد، فانتصر المسيح على قيصر.