في أي وقت تشاء باباً رئيسياً بين الشرق والغرب، وفيها تجتمع تجارة ثلاث قارات، وتفرغ غلات مائة من الدول، وهنا يستطيع جيش أن يصمد ليصد الفرس المتحضرين، والهون الهمح الشرقيين، وصقالبة الشمال، وبرابرة الغرب. وتحميها المياه الدافقة من جميع الجهات إلا جهة واحدة يستطاع حمايتها بالأسوار المنيعة، وتستطيع الأساطيل الحربية والسفن التجارية أن تجد في القرن الذهبي -وهو خليج صغير من خلجان البسفور- مرفأ أميناً يقيها هجمات السفن المعادية والأعاصير المدمرة. ولعل اليونان قد سموا هذا الخليج قرناً Keras لشكله الذي يشبه القرن، أما وصفه بالذهبي فقد أضيف إليه فيما بعد ليوحي إلى سامعيه بما ينعم به هذا المرفأ من ثروة عظيمة يأتي إليه بها السمك والحبوب والتجارة. ورأى الإمبراطور المسيحي أنه واجد في هذا المكان، بين السكان الذين تدين كثرتهم بالمسيحية، والذين طال عهدعم بالملكية والأبهة الشرقيتين، من تأييد الشعب ما لا يستطيع أن يجده في روما: وما يضن به عليه مجلس شيوخها المتغطرس وسكانها الوثنيين. وهنا عاشت الدولة الرومانية ألف عام بعد وفاته رغم هجمات جحافل البرابرة التي أغرقت روما فيما بعد، فقد هدد القوط، والهون، والوندال، والأفار، والفرس، والعرب، والبلغار، وللروس العاصمة الجديدة، وعجزوا جميعاً عن الاستيلاء عليها، ولم تسقط في تلك القرون العشرة إلا مرة واحدة، وكان سقوطها في أيدي الصليبيين المسيحيين الذين كان حبهم للذهب يزيد قليلاً على حبهم للدين. وظلت بعد ظهور الإسلام ثمانية قرون تصد جيوش المسلمين التي اكتسحت أمامها آسية وإفريقية، وأسبانيا. وفيها ظلت الحضارة اليونانية قائمة لا ينضب معينها تحتفظ للعالم بشعلة أنقذته فيما بعد من الهمجية، وعضت بالنواجذ على كنوزها القديمة، حتى أسلمتها آخر الأمر إلى إيطاليا في عصر النهضة، ومنها إلى العالم الغربي.
وفي عام ٣٢٤ سار قسطنطين الأكبر على رأس جماعة من قواده الجند،