للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والمهندسين والقساوسة، وانتقل بهم من مرفأ بيزنطية، واجتاز ما حوله من التلال، ليرسم حدود العاصمة التي كان يعتزم إنشاءها. ولما عجب بعضهم من اتساع رقعتها رد على هؤلاء بقوله: "سأواصل السير حتى يرى الله الذي لا تدركه الأبصار أن من الخير أن أقف (٢) ". وكانت هذه سنته التي جرى عليها طوال حكمه، فلم يكن يتردد قط في القيام بأي عمل، أو النطق بأي لفظ، يمكن أن تنال به خططه أو دولته ذلك التأييد القوي الذي ينبعث من عاطفة الشعب الدينية وولائه للكنيسة المسيحية.

ثم جاء "إطاعة لأمر الله" (٣) بآلاف الصناع والفنانين لإقامة أسوار المدينة، وحصونها، ودور المصالح الحكومية، وقصورها، ومنازل سكانها. وزين الميادين والشوارع بالفساقي، والأبهاء ذات العمد، وبالنقوش التي جاء بها من مختلف المدن في دولته الواسعة بلا تمييز بينها؛ وهداه حرصه على تسلية العامة وإيجاد متنفس ينصرف فيه شغبها واضطرابها، فأنشأ مضماراً للسباق تستطيع فيه الجماهير أن تشبع غريزة اللعب والمقامرة على نطاق لم يُر له مثيل إلا في روما أيام انحلالها. وأعلنت روما الجديدة عاصمة للدولة الشرقية في اليوم الحادي عشر من شهر مايو سنة ٣٣٠: واتخذ ذلك اليوم بعدئذ عيداً يحتفل به في كل عام بأعظم مظاهر الأبهة والفخامة. وكان ذلك إيذاناً بانتهاء عهد الوثنية من الجهة الرسمية وبداية العصور الوسطى عصور انتصار الإيمان من الوجهة الرسمية أيضاً إذا صح ذلك التعبير. وبذلك انتصر الشرق في معركته الروحية على الغرب الظافر بقوته المادية الجسمية، وسيطر على الروح الغربية مدى ألف عام.

وما كان يمضي على اتخاذ القسطنطينية عاصمة للدولة حتى أصبحت أغنى مدائن العالم وأجملها وأعظمها حضارة، وظلت كذلك مدى عشرة قرون كاملة. وبينما كان عدد سكانها في عام ٣٣٧ لا يزيد على ٥٠. ٠٠٠ نسمة إذا هم يبلغون في عام ٤٠٠ حوالي مائة ألف، وفي عام ٥٠٠ ما يقرب من مليون (٤). وثمة وثيقة