ومن زائر إلى زائر، وأن يرهق بالعمل ثلاثة من أمناء السر في كل يوم، وكان يظهر في قيامه بواجبات القاضي منتهى النشاط والجلد والاهتمام؛ ويكشف في أثناء ذلك عن سفسطة المحامين، ويخضع في تواضع وأدب جم لآراء القضاة المدعمة بالبراهين والتي تخالف آراءه هو، وأعجب الناس جميعاً بعدالة أحكامه. ومن أعماله أنه خفض الضرائب المفروضة على الفقراء، ورفض التيجان الذهبية التي كانت التقاليد تقضي بأن تقدمها كل ولاية للإمبراطور الجديد، وألغى ما تجمع على إفريقية من الضرائب المتأخرة، وتجاوز على الجيزة الباهظة التي كانت مفروضة حتى ذلك الوقت على اليهود (٣٤). وأصر على إلزام كل من يريد ممارسة مهنة الطب أن يحصل على ترخيص بممارستها، واشتد في تنفيذ ذلك كثيراً، وقصارى القول أنه توج انتصاراته العسكرية بنجاحه في الأعمال الإدارية. ويقول أميانوس إن "شهرته أخذت تنتشر شيئاً فشيئاً حتى عمت بقاع العالم"(٣٥).
ومع هذا النشاط الجم في شؤون الحكم كان أهم ما يولع به هو الفلسفة، وكانت غايته التي لم يغفل عنها يوماً ما هي أن يعيد الشعائر الدينية القديمة إلى سابق عهدها. ولكي يحقق هذه الغاية أمر بإصلاح الهياكل الوثنية وفتحها، ورد ما صودر من أملاكها، وإعادة ما كان لها من موارد. كذلك بعث بالرسائل إلى كبار الفلاسفة في عهده يدعوهم إلى القدوم إليه ليعيشوا ضيوفاً عليه في بلاطه. ولما أن قدم مكسموس، وكان يوليان يلقي خطبة في مجلس الشيوخ، قطع خطبته، وجرى بأسرع ما يستطيع ليحي أستاذه، وقدمه إلى المجلس، وأثنى عليه الثناء المستطاب، وعبَّر له عن شكره واعترافه بفضله. واغتنم مكسموس تحمس الإمبراطور فارتدى أحسن الثياب، وعاش عيشة الترف حتى أثار حوله الريب، ولما أن مات يوليان حوسب حساباً عسيراً على الوسائل التي جمع بها تلك الثروة الطائلة في هذا الوقت القصير (٣٦). لكن يوليان لم يكن يلقي بالاً إلى المتناقضات التي بدت في حياة الرجل لأن حب الفلسفة قد ملك عليه كل تفكيره. ولهذا