من الأساقفة والقساوسة هل يبقون في مناصبهم أو يلجأون إلى الفرار؟ فأمرهم بالبقاء وضرب لهم المثل بنفسه. ولما أن حاصر الوندال مدينة هبو كان أوغسطين يعمل على تقوية الروح المعنوية للأهلين الجياع بمواعظه ودعواته، وظل كذلك حتى مات في الشهر الثالث من أشهر الحصار في السادسة والسبعين من عمره، ولم يترك وصية لأنه لم يكن يمتلك شيئاً، ولكنه كتب بنفسه قبريته:"ما الذي يثقل قلب المسيحي؟ إن الذي يثقله هو أنه حاج مشتاق إلى بلده"(٩٨).
وقلَّ أن نجد في التاريخ رجلاً يضارعه في نفوذه وقوة أثره. نعم إن الكنيسة الشرقية لم تشغف بتعاليمه؛ ويرجع بعض السبب في هذا إلى أنه كان بعيداّ كل البعد عن اليونانية في قلة علمه وفي إخضاعه الفكر للشعور والإرادة كما يرجع بعضه إلى أن الكنيسة الشرقية قد خضعت قبل أيامه لسلطان الدولة "أما في الغرب فقد طبع المذهب الكاثوليكي بطابعه الخاص، وسبق جريجوري السابق وإنوسنت الثالث فيما طلبته الكنيسة من أن تكون لها السلطة العليا على عقول الناس وعلى الدولة، ولم تكن المعارك الكبرى التي شبت بين الباباوات والأباطرة إلا نتيجة سياسية لتفكيره. ولقد ظل حتى القرن الثالث عشر المسيطر على الفلسفة الكاثوليكية وصبغها بصبغة الفلسفة الأفلاطونية، وحتى أكويناس الأرسطوطيلي النزعة قد سار في ركابه. وكان ويكلف Wyclif، وهوس Huss، ولوثر Luther، يعتقدون انهم يعودون إلى أوغسطين حين خرجوا على الكنيسة. ولقد أقام كلفن Calvin عقيدته الصارمة على نظريات أوغسطين الخاصة بالصفوة المختارة والطائفة المعونة. وفي الوقت الذي كان يبعث رجال الفكر على التدبر والتفكير، كان هو الملهم لمن كانت مسيحيتهم خارجة من القلب أكثر من خروجها من العقل. فكان المتصوفة يحاولون أن يترسموا خطاه وهم يتطلعون إلى رؤية الله، وكان الرجال والنساء يجدون في خشوعه ورقة دعواته وصلواته حاجتهم من الغذاء الروحي ومن الألفاظ القوية التي تأخذ