وبردنتيوس، وجيروم، وسيدنيوس، وأوسيدنيوس، وأوسنيوس، يتطلعون إلى أن يكتبوا شعراً كشعر فرجيل، أو نثراً كنثر شيشرون، وإن كفة جريجوري نزينزين، وكريسستوم، وأمبروز، وجيروم، وأوغسطين ترجح، من الناحية الأدبية نفسها، على كفة معاصريهم الوثنيين أمثال أميانوس، وسيماخوس، وكلوديان، ويوليان. لكن أسلوب النثر تدهور بعد أيام أوغسطين، وتسربت من اللغة العامية إلى الكتابة اللاتينية المفردات الخشنة غير المصقولة، وقواعد البناء الخيالية من العناية والدقة، وانحط الشعر اللاتيني في وقت من الأوقات حتى صار مجرد نظم ركيك قبل أن تصاغ الأنماط الجديدة في الترانيم الدينية الفخمة.
لكن العلة الأساسية في تدهور الثقافة لم تكن المسيحية بل البربرية، ولم تكن الدين بل الحروب. ذلك أن تيار البرابرة الجارف قد خرب المدن والأديرة ودور الكتب، والمدارس، أو أقفرها، وجعل حياة طالب العلم أو العالم مستحيلة. ولو أن الكنيسة لم تحتفظ بقدر من النظام في هذه الحضارة المتداعية لكان الخراب اشد والبلية أعظم؛ وفي ذلك يقول أمبروز "لقد ظلت الكنيسة ثابتة لا تزعزعها العواصف الهوج وسط ما حل بالعلم من اضطراب، فالفوضى ضاربة أطنابها في كل شيء حولها، أما هي فتقدم لجميع المنكوبين مرفأ هادياً يجدون فيه الأمن والسلامة"(١١٢). ولقد كان هذا شانها في معظم الأوقات.
وكانت الإمبراطورية الرومانية قد رفعت العلم، والرخاء، والسلطان، إلى الذروة التي بلغتها في العهد القديم، فلما اضمحلت الإمبراطورية في الغرب، وعم الفقر وساد العنف، تطلب هذا مثلاً أعلى جديداً، وأملاً جديداً، ليكونا للناس سلوى وعزاء مما حل بهم من أرزاء، وتشجيعاً لهم على الكدح المتواصل: فحل عصر الإيمان محل عصر السلطان. وسارت الحال على هذا المنوال فلم يرفض العقل الإيمان، ويترك السماء لينشئ المدينة الفاضلة على الأرض، إلا بعد أن عاد الثراء والكبرياء إلى العالم في عصر النهضة. ولكن إذا ما خاب العقل وعجز عن حل