هذا ما فعلته الكنيسة في تلك العهود لأجسام الناس، فماذا فعلت لعقولهم؟ كانت المدارس الرومانية لا تزال قائمة في ذلك الوقت، ولهذا لم تر من واجبها أن تعمل على ترقية العقول. هذا إلى أنها كانت ترفع الشعور فوق العقل، وبذلك كانت المسيحية من هذه الناحية بمثابة رد فعل "إيداعي" على الإيمان "الإتباعي" بالعقل والاعتماد عليه؛ ولم يكن روسو من هذه الناحية إلا أوغسطين مصغراً. ولم يكن يخالج الكنيسة شك في أن بقائها يتطلب تنظيمها، وفي أن هذا يتطلب الاتفاق على مبادئ وعقائد أساسية، وأن الكثرة الغالبة من أتباعها تتوق إلى أن ترجع إلى عقائد مقررة ثابتة، فحددت من اجل ذلك عقيدتها في قواعد مقرة لا تبديل فيها، وجعلت الشك في هذه القواعد ذنباً، وتورطت في نزاع لا نهاية له مع عقل الإنسان المرن وآرائه المتغيرة. وادعت الكنيسة أنها قد وجدت عن طريق الوحي الإلهي جواباً لكل مسألة من المسائل القديمة المتعلقة بأصل الخلق، وطبيعتهم، ومصيرهم، وفي ذلك كتب لكتنيوس (٣٠٧) يقول: "نحن الذين أخذنا عن الكتاب المقدس علم الحقيقة نعرف بداية العالم ونهايته"(١١٠) وكان ترتليان قد قال هذا القول نفسه قبل ذلك الوقت بقرن من الزمان (١٩٧). وأراد أن يغلق باب الفلسفة أمام الناس (١١١). وإذ كانت المسيحية قد حولت اهتمام الناس من الدار الدنيا إلى الدار الآخرة، فقد عرضت عليهم تفسيرات سماوية للحادثات التاريخية، فقاومت بذلك مقاومة سلبية البحث عن العلل الطبيعية؛ وضحَّت بكل ما أنتجه العلم اليوناني من تقدم خلال سبعمائة عام في سبيل علم نظام الكون وأصل الحياة كما وصفهما سفر التكوين.
وبعد فهل أدت المسيحية إلى اضمحلال في الأدب؟ لسنا ننكر أن معظم آباء الكنيسة كانوا يعادون الآداب الوثنية؛ لأنها تسري فيها كلها عقيدة الشرك الشيطانية، والفساد الخلقي المزري بكرامة الإنسان؛ ولكن اعظم هؤلاء الآباء كانوا على الرغم من هذا يحبون الآداب القديمة، وكان المسيحيون أمثال فرتناتوس