اليعقوبية، فحاصر الغوغاء قصره، وقتلوا ثلاثة من أعوانه. ثم أشرف عليهم تعلوه مهابة الشيوخ التي قاربت الثمانين، وعرض عليهم أن ينزل عن العرش إذا اتفق الشعب على من يختاره خليفة له. وكان هذا شرطاً مستحيل التنفيذ. انتهى الأمر بعده بأن طلبت إليه الجماهير الثائرة أن يحتفظ بالتاج. ولما توفي بعد قليل من ذلك الوقت اغتصب الملك جستين، وهو شيخ أمي (٥١٨ - ٥٢٧)، يحب الراحة التي يميل إليها ابن السبعين، ولذلك ترك حكم الإمبراطورية إلى جستنيان نائبه وابن أخيه.
ولم يكن هذا الاختيار ليروق فيما بعد، ومن يوم أن ولد جستنيان نفسه، في عين بركبيوس مؤرخه وعدوه. ذلك بأن الإمبراطور قد ولد في عام ٤٨٢ من أبوين مزارعين من أصل إليرى -أو لعله صقلبي (١) - يقيمان بالقرب من سرديكا Sardica وهي مدينة صوفيا الحالية. وجاء به عمه جستين الى القسطنطينية ورباه تربية صالحة. ولما أصبح جستنيان ضابطاً في الجيش ولبث تسع سنين ياوراً ومساعداً لجستين، أظهر في عمله براعة عظيمة. ولما مات عمه (٥٢٧) خلفه على عرش الإمبراطورية، وكان وقتئذ في الخامسة والأربعين من عمره، متوسط القامة والبنية، حليق الذقن، متورد الوجه، متجعد الشعر، رقيق الحاشية، تعلو ثغره ابتسامة تكفي لأن تخفي وراءها ما لا يحصى من الأغراض، وكان متقشفاً في طعامه وشرابه تقشف الزهاد، لا يأكل إلا قليلا، ويعيش معظم أيامه على الخضر (٢). وكثراً ما كان يصوم حتى تكاد تخور قواه. وكان في أثناء صيامه لا ينقطع عما اعتاده من الاستيقاظ مبكراً، وتصريف شئون الدولة "من مطلع الفجر إلى الظهيرة، وإلى غسق الليل"، وكثيراً ما كان يظن أعوانه أنه قد آوى إلى مضجعه، بينما كان هو منهكماً في الدرس، يبذل جهده ليكون موسيقياً ومهندساً ومعمارياً، وشاعراً ومشترعاً، وفقيهاً في الدين وفيلسوف، وإمبراطوراً يجيد تصريف شئون الإمبراطورية. ولكنه رغم هذا كله لم يتخل عن خرافات