كانت تمتاز بالعمل المتواصل على تنظيم حكم الإمبراطورية وشئونها الاقتصادية؛ ولقد أفلحت في إقامة صرح من النظام إن يكن معادياً للحرية فإنه قد حفظ كيان الحضارة في ركن من أركان أوربا في الوقت الذي غرقت فيه سائر القارة في ظلمات العصور المظلمة. هذا إلى أنه قد خلد اسمه في تاريخ الصناعة والفن كما يشهد بذلك جامع أياصوفيا الذي هو أثر من آثاره. وما من شك في أن أشياعه من معاصريه قد بدا لهم أن الإمبراطورية استطاعت مرة أخرى أن تصد تيار التدهور وأن تبعد عنها يد الردى إلى حين.
غير ان الذي يؤسف له لم يكن أكثر من مهلة جد قصيرة. فقد ترك جستيان خزائن الدولة خاوية، وكان قد وجدها عامرة، وكانت شرائعه القاسية الخالية من التسامح الديني، وكان جباته اللصوص، سبباً في نفور الأمم التي استولت جيوشه على بلادها، فلم يطل ولاؤها له، وكانت هذه الجيوش قد ضعفت مِرتَّها، وتبدد شملها، ولم تنل أجورهاـ فلم يكن في وسعها أن يطول دفاعها عن البلاد التي افتتحتها وأحلت بها الخراب والدمار. وسرعان ما تركت أفريقية للبربر، وسوريا؛ وفلسطين، ومصر، ثم أفريقية وأسبانيا للعرب، وإيطاليا للمبارد. وقبل أن ينقضي قرن واحد على موت جستنيان خسرت الإمبراطورية أكثر مما كسبه هو لها. وإذا ما عدنا إلى الماضي أدركنا من خلال ثناياه، وامتلأت نفوسنا زهواً بهذا الإدراك، ما كان في نظام حكم الإمبراطورية من أخطاء. وبدا لنا أنه كان من الخير أن تجمع القوميات والمذاهب الدينية الناشئة في نظام اتحادي، وأن تمد يد الصداقة إلى القوط الشرقيين الذين حكموا إيطاليا حكاً صالحاً إلى حد كبير. وأن تكون الدولة أداة لحفظ الثقافة القديمة من الضياع ومَعِيناً غزيراً تستمد منه الدول الجديدة أسباب حضارتها ورفاهيتها.
وليس ثمة ما يضطرنا إلى قبول حكم بروكبيوس على جستنيان، فقد كفانا