وارتد البرابرة على أعقابهم وولوا الأدبار قبل أن يصاب روماني واحد بجرح خطير. وغضبت الجماهير في العاصمة لأن بليساريوس لم يقتف أثر العدو ويقبض على قائد الهون ويأت به أسيراً. ودأبت الغيرة في قلب الإمبراطور فاستمع إلى وشاية الواشين بقائده الكبير، واتهمه بالتآمر عليه، وأمره بأن يسرح جنوده المسلحين. ولما مات بليساريوس في عام ٥٦٥ صادر جستنيان نصف ممتلكاته.
وعاش الإمبراطور بعد قائده ثمانية أشهر. وأثمرت دراسته للدين في سنيه الأخيرة ثمرة عجيبة! وهل أعجب من أن يخرج على الدين حامي حمى الدين. فقد أعلن جستنيان أن جسد المسيح غير قابل للدنس، وأن طبيعة المسيح البشرية لم تتعرض في يوم من الأيام لحاجة من حاجات الجسد الفاني، ولا لشيء من مساوئه. وأنذره رجال الدين بأنه إذا مات قبل أن يرجع عن هذه الخطيئة "فسيلقى في نار جهنم ويبقى فيها إلى أبد الآبدين"(٢٧). ولكنه مات قبل أن يتوب من ذنبه (٥٥٦)، بعد حياة دامت ثلاثة وثمانين عاماً، جلس منها على العرش ثمانية وثلاثين.
وكان موت جستنيان نقطة أخرى من النقاط التي يمكن أن تعد خاتمة التاريخ القديم. لقد كان في حياته إمبراطور رومانياً بحق، يفكر في جميع شؤون الإمبراطورية شرقيها وغربيها على السواء، ويبذل كل ما وسعه من جهد ليصد عنها البرابرة. وليعيد إلى الإمبراطورية الواسعة حكماً منظماً وشرائع متجانسة. ولقد أفلح في تحقيق جانب كبير من هذا الغرض: فقد استرد أفريقية، ودلماشيا، وإيطاليا، وقورسقة، وسردينيا، وصقلية، وبعض أسبانيا، وطرد الفرس من سوريا، وتضاعفت رقعة الإمبراطورية في عهده ضعفين. وتمثل شريعته بما فيها من وحدة، ووضوح، واتساع في الأفق، ذروة في تاريخ القانون. ولسنا ننكر أن إدارته لشؤون الإمبراطورية قد لوّثها فساد الموظفين، ورشوة الحكام، وفدح الضرائب، وتدخل الأهواء، والنزوات في العفو والعقاب؛ ولكنها مع ذلك