الرخاء جميع ولايات الدولة، وإن كان قد فرض عليها ضرائب عالية ليملأ بها الخليفة وخزانته هو، ذلك أنه هو أيضاً قد حذا حذو سيده في مناصرة الآداب والفنون وقد عين ولديه الفضل وجعفر في منصبين كبيرين من مناصب الدولة، فسارا فيهما أحسن سيرة، وأثريا منهما ثراء عظيماً، فأنشأ القصور، وجمعا حولهما طائفة كبيرة من الشعراء، والندماء، والفلاسفة. وكان هرون يحب جعفر حباً أطلق ألسنة السوء في علاقتهما الشخصية، ويقال إن الخليفة أمر بأن تصنع له جبة ذات طوقين يلبسها هو وجعفر معاً فيبدوان كأنهما رأسان فوق جسم واحد، ولعلهما كانا في هذا الثوب يمثلان حياة بغداد الليلية (٢٥).
ولسنا نعرف بالدقة سبب النكبة المفاجئة التي قضت على سلطان البرامكة. فابن خلدون يقول إن سببها الحقيقي هو "أنهم كانوا قد قبضوا على ناصية الأمور كلها، وتصرفوا بأموال الدولة دون رقيب حتى أصبح الرشيد يطلب المبالغ الصغيرة فلا يجدها إلا بإذن من الوزير (٢٦).
ولعل السبب أنه لما جاوز هرون سن الشباب، ولم يجد في الجري وراء الملاذ الجسمية والعقلية متنفساً لكفاياته ومواهبه، ندم على ما خص به وزيره من قوة وسلطان. وقد حدث أن أمر الخليفة جعفر بأن يقتل أحد الخارجين عليه، فتغاضى جعفر عن الأمر حتى تمكن الثائر من الهرب، ولم يغفر هرون له هذا الإهمال المحبب إلى النفوس. وهناك قصة من طراز قصص ألف ليلة وليلة تقول إن العباسة أخت الرشيد، أحبت جعفر، وأن الرشيد كان قد أقسم بأن يحتفظ بدماء بني هاشم الذي يجري في عروق أخواته صافية نقية لا يخالطها إلا دماء أشراف العرب، وجعفر كما نعلم من أبناء الفرس. وأجاز لهما الخليفة أن يتزوجا؛ على ألا يلتقيا إلا في حضوره. ولكن الحبيبين سرعان ما نقضا هذا العهد، وولدت العباسة لجعفر ولدين دون أن يعلم بذلك الرشيد، فقد اخفيا عنه وأرسلا إلى المدينة ليربيا فيها. وكشفت زبيدة زوج الرشيد هذا