إذا ما أتتهم فإنها ستقضي على المساواة القائمة بينهم؛ نعم إن الشيوعية طمأنت هؤلاء الذين خلصوا بحياتهم من حوادث الفقر والجهل وما يترتب عليهما من مرض في المجتمع البدائي، لكنها لم تنتشلهم من ذلك الفقر انتشالا، وأما الفردية فقد جاءت بالثراء، لكنها كذلك جرَّت معها القلق والرق، نعم إن الفردية حركت في الممتازين من الرجال قواهم الكامنة، لكنها كذلك نفخت نار التنافس في الحياة فأشعلتها، وجعلت الناس يحسون الفقر إحساساً مريراً، مع أن هذا الفقر لم يكن ليؤذي أحداً حين استوى فيه الجميع (١).
(١) ربما كان من الأسباب التي تميل بالشيوعية إلى الظهور في بداية المدنية أنها تزدهر ازدهاراً سريعاً في أوقات القحط التي يندمج فيها الفرد في جماعته مدفوعا بعامل الخطر المشترك الذي يتهدد الجميع بالموت جوعا؛ أما إذا كثرت الخيرات وزال الخطر، فإن التماسك الاجتماعي بين الأفراد تقل شدته، بمقدار ما تزداد الفردية، فكأنما تنتهي الشيوعية حين يبدأ الترف؛ وإذا ما ازدادت حياة المجتمع تعقداً، وأخذ تقسيم العمل بين الناس يقسمهم في أعمال مختلفة وصناعات مختلفة، يصبح من المتعذر- وتزداد الصعوبة شيئاً فشيئاً- أن تكون كل هاتيك الخدمات التي يقوم بها الأفراد على قدم المساواة من حيث قيمتها للمجتمع؛ وإذن فلا مناص من أن الفريق الذي مكنته زيادة قدرته عن الآخرين من القيام بالأعمال التي هي أكثر أهمية، سيأخذ من الثروة التي تنتجها الجماعة أكثر مما يقضي به التعادل في التقسيم؛ فكل مدنية نامية إن هي إلا مشهد تتكاثر فيه وجوه التفاوت بين الناس، إذ تتحد الفوارق الطبيعية الكائنة بين جهود الأفراد مع الفوارق الناشئة في الفرص السانحة، فتنتجان فوارق أخرى صناعية في الثروة والقوة؛ فإذا لم يكن هنالك قوانين، أو إذا لم يكن هناك طاغية، يعمل على كبح هذه الفوارق الصناعية، فإنها تضل آخر الأمر إلى درجة الانفجار، حين لا يجد الفقراء في أيديهم ما يخافون من ضياعه إذا ما أعلنوا العصيان فتهب الثورة بفوضاها التي تسوى بين الناس من جديد في فقر شامل. ومن هنا نرى حلم الشيوعية كامناً في كل مجتمع حديث، لأنه ذكرى انحدرت للناس من حياة آبائهم الأولين حيث الحياة أبسط من حياتنا وأقرب إلى المساواة؛ فإذا ما وجد الناس أنفسهم في تفاوت يفرق بينهم وفي حالة من القلق على أرزاقهم، بحيث لم يعودوا يحتملون هذا القلق وذلك التفاوت، فإنهم يرحبون بالعودة إلى الماضي الذي يفيضون عليه من خيالهم مجالاً بأن يذكروا ما كان فيه من مساواة وينسوا ما كان يسوء من فقر؛ لهذا كله ترى الأرض يعاد تقسيمها حيناً بعد حين بانتظام سواء بحكم التشريع أو بمناهضته، سواء أتم هذا التقسيم الجديد بفضل " الجراثى" في روما أو اليعقوبيين في فرنسا أو الشيوعيين في الروسيا؛ وكذلك ترى الثروة يعاد تقسيمها حيناً بعد حين بانتظام، سواء أتم ذلك بمصادرة الأملاك مصادرة بالقوة، أم بفرض الضرائب على الدخول والتركات بحيث تؤدي إلى المصادرة في نهاية الأمر؛ وبعدئذ يبدأ السباق في سبيل الثروة والمتاع والقوة من جديد، ويتشكل الناس بحكم قدراتهم المختلفة في هيئة الهرم مرة أخرى فمهما يكن من أمر القوانين الموضوعة، فلابد للأقدر من الناس أن يظفروا بالتربة الأخصب بوجه من الوجوه، وأن يحتلوا المكانة الأعلى ويأخذوا نصيب الأسد؛ وسرعان ما تبيح لهم قوتهم أن يسيطروا على الدولة وأن يعيدوا سن القوانين أو يعيدوا شرحها بحيث تتفق وهواهم، فيأتي يوم يشتد فيه التفاوت بين الناس كما كان قبل؛ فالتاريخ الاقتصادي كله- في هذا الصدد- إن هو إلا نبضات قلب الكائن الاجتماعي؛ هو انقباض لهذا القلب الكبير ثم انبساط، يتمثلان في تركز الثروة تركزا طبيعيا ثم انفجار الثروة انفجارا طبيعيا كذلك.