بقسط من الوطنية الفارسية، وأنحى باللائمة على العرب لقضائهم على ما كان في العهد الساساني من حضارة عظيمة (٢٧). أما في ما عاد هذا فقد كان موقفه موقف العالم صاحب النظرة الموضوعية، المجد في البحث العلمي، النقادة للروايات المتواترة والنصوص (بما فيها نصوص الإنجيل)، المدقق، النزيه، ذي الضمير الحي في أحكامهِ، وكثيراً ما كان يعترف بجهلهِ، ويعد بأن يواصل بحوثه حتى تنكشف له الحقيقة. وقد قال في مقدمة الآثار الباقية مثل ما قال فرانسس بيكن في بعض كتبه " … بعد تنزيه النفس عن العوارض المردية أكثر الخلق، والأسباب المعمية لصاحبها عن الحق، وهي كالعادة المألوفة، والتعصب، والتظافر، وإتباع الهوى، والتغلب بالرياسة، وأشباه ذلك .... وبغير ذلك، لا يتأتى لنا نيل المطلوب ولو بعد العناء الشديد والجهد الجهيد".
وبينما كان مضيفه يغزو الهند ويدمر مدنها، كان البيروني يقضي السنين الطوال في دراسة شعوبها، ولغاتهم، وأديانهم، وثقافتهم، ومختلف طوائفهم. وأثمرت هذه الدراسة كتابة تاريخ الهند الذي نشره في عام ١٠٣٠ والذي يعد أعظم مؤلفاته. وقد ميز فيه منذ البداية بين ما شاهده بعينهِ وما سمعه من غيره، وذكر أنواع الكذابين الذين ألفوا كتباً في التاريخ (٢٨) ولم يخص تاريخ الهند السياسي إلا بحيز صغير في كتابه خص أحوال الهند الفلكية باثنين وأربعين فصلاً من فصوله وخص أديانها بأحد عشر. وكان من أهم ما سحر لبه البهاجافاد جيتا وأدرك ما بين تصوف الفدانتا، والصوفية، والفيثاغورية الحديثة، والأفلاطونية الحديثة من تشابه، وأورد مقتطفات من كتابات مفكري الهنود، ووازن بينها وبين مقتطفات شبيهة بها من كتابات فلاسفة اليونان، وفضل آراء اليونان عن آراء الهنود، وكتب يقول إن الهند لم ينبغ فيها رجل كسقراط، ولم تظهر فيها طريقة منطقية تطهر العلم من الأوهام (٢٩). ولكنه رغم هذا ترجم إلى اللغة العربية عدداً من المؤلفات السنسكريتية، وكأنما أراد أن يوفي بدينهِ للهند