الغربيين. وقد ولد كما ولد الخوارزمي بالقرب من مدينة جنوى الحالية، وتمثل فيه كما تمثل في الخوارزمي زعامة موطنه في غرب بحر قزوين من الناحية العلمية في هذه الأعوام المائة من العصور الوسطى التي بلغ فيها العلم ذروته. وعرف أمراء خورازم وطبارستان فضله وأدركوا عظم مواهبه فأفردوا له مكاناً في بلاطهم. وسمع محمود الغرنوي بكثرة من كان في خوارزم من الشعراء والفلاسفة، فطلب إلى أميرها أن يبعث إليه بالبيروني، وابن سينا، وغيرهما من العلماء؛ وأدرك الأمير أن هذا الأمر واجب الطاعة (١٠١٨)، وسافر البيروني ليحيا حياة الجد والهدوء والعزة والكرامة في بلاد المليك المحارب فاتح الهند. ولعل البيروني قد دخل الهند في ركاب محمود نفسه، وسواء كان هذا أو لم يكن فقد أقام العالم الفيلسوف في الهند عدة سنين درس فيها لغة البلاد وآثارها القديمة، ثم عاد إلى بلاط محمود وأصبح فيه من أعظم المقربين لهذا الحاكم المطلق الذي لا يستطيع الكاتب رسم صورة صادقة له. ويقال إن رجلاً من شمالي آسية زار محموداً ووصف له إقليماً ادعى أنه رآه بعينهِ، وقال إن الشمس تظل فيه عدة أشهر لا تغيب أبداً. ولم يصدق محمود هذا القول، وغضب على الرجل وأوشك أن يزجه في السجن لجرأتهِ على المزاح معه وهو صاحب الحول والطول، فما كان من البيروني إلا أن شرح هذه الظاهرة شرحاً أقنع بهِ الملك وأنجى الزائر (٢٦). وكان مسعود بن محمود من الهواة المولعين بالعلم فأخذ ينفح البيروني بالهدايا والأموال، وكثيراً ما كان البيروني نفسه يردها إلى بيت المال لزيادتها على حاجتهِ.
وكان أول مؤلفاته الكبرى رسالة علمية فنية عميقة تعرف باسم الآثار الباقية في التقاويم والأعياد عند الفرس، وأهل الشام، واليونان، واليهود، والمسيحيين، الصابئين، والزرادشتيين، والعرب، والكتاب دراسة نزيهة إلى درجة غير مألوفة، مبرأة إلى أقصى حد من الأحقاد الدينية. وكان البيروني يميل إلى مذهب الشيعة، وكان ذا نزعة تشككية خالية من المباهاة والادعاء؛ غير أنه ظل يحتفظ