يحكمها جميعاً وتتضح آثاره في كل جزء من أجزاء الكون. وقد افتتن المسلمون بالمنطق اليوناني في صورته الكاملة الواضحة التي جاء بها كتاب أورغانون (الآلة الفكرية) لأرسطو بعد أن أتيح لهم الفراغ الذي لا بد منه للتفكير، ووجدوا فيهِ الأدوات التي يحتاجونها لتفكيرهم؛ وظل المسلمون ثلاثة قرون طوال يحاجون بالمنطق وتسلب لبهم بهجة الفلسفة المحببة كما سلبت لب الشباب في أيام أفلاطون. وسرعان ما أخذ صرح العقائد التعسفية يتصدع وينهار، كما انهارت العقائد اليونانية بتأثير بلاغة السوفسطائيين، وكما ضعفت العقائد المسيحية وتزعزعت قواعدها تحت ضربات أصحاب الموسوعات الفرنسيين وسخرية فلتير اللاذعة.
وكانت البداية التقريبية للعهد الذي نستطيع أن نسميه عهد الاستنارة الإسلامية هي الجدل الذي ثار حول موضوع عجيب هو موضوع خلق القرآن. ذلك أن عقيدة فيلون في الكلمة وقوله إنها حكمة الله الأبدية، وما جاء بهِ الإنجيل الرابع من أ، المسيح هو كلمة الله أو العقل القدسي:"في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله، كل شيء به كان وبغيرهِ لم يكن شيء مما كان"(٥٣)، وعقيدة المسيحيين العارفين (١) وأتباع الأفلاطونية الحديثة الذين يجسدون الحكمة الإلهية يقولون إنها هي أداة الخلق الفعالة، وعقيدة اليهود في أزلية التوراة-كل هذه الآراء قد أوجدت عند المسلمين السنيين عقيدة مماثلة تقول إن القرآن كان على الدوام موجوداً في عقل الله، وإن نزوله على محمد كان هو دون غيره حادثاً في زمان معين، وكانت نشأة الفلسفة في الإسلام على يد المعتزلة الذين ينكرون قدم القرآن، وهم يجهزون باحترامهم لكتاب الله (الكريم) ولكنهم يقولون إنه إذا تعارض هو
(١) القائلين بأن الخلاص بالمعرفة لا بالإيمان. (المترجم)