وإن الهدف النهائي للفلسفة، وهو الهدف الذي لا يمكن بلوغه كاملاً، هو معرفة العلة الأولى، وخير طريق للوصول إلى هذه المعرفة هو تطهير النفس. وقد استطاع الفارابي، كما استطاع أرسطو أن يعنى بجعل أقواله عن الخلود غامضة غير مفهومة. ومات الرجل في دمشق عام ٩٥٠ م.
ومن بين كتب الفارابي الباقية كلها كتاب واحد يدهشنا ما يدل عليهِ من قوة الابتكار ونعني به كتاب المدينة الفاضلة. ويبدأ الكتاب بوصف قانون الطبيعة بأنه كفاح واحد دائم يقوم بهِ كل كائن حي ضد سائر الكائنات؛ وهو في ذلك يشبه ما يقول هبز Hobbs من أن الأشياء كلها يحارب بعضها بعضاً؛ ثم يقول إن كل كائن حي يرى في آخر الأمر أن سائر الكائنات الحية وسائل يحقق بها أغراضه، ثم يعقب على هذا بقولهِ إن بعض الساخرين يستنتجون من هذا أن الرجل العاقل في هذا التنافس الذي لا مفر منه هو أقدر الناس على إخضاع غيره لإرادتهِ، وأعظمهم تحقيقاً لرغباتهِ كاملة. فكيف خرج المجتمع الإنساني إذن من هذا القانون قانون الغاب؟ وإذا ما أمعنا الفكر في أقوال الفارابي رأينا أنه كان بين المسلمين الذين بحثوا هذا الموضوع فلاسفة من طراز روسو وآخرون من طراز نتشة: فمنهم من قال إن المجتمع قام في بادئ الأمر على أساس نوع من الاتفاق بي أفراد على أن بقاءهم يتطلب قبول بعض القيود التي تعتمد على العادات والقانون؛ ومنهم من سخر من هذا "العقد الاجتماعي" وقال إن مثل هذا التعاقد لم يوجد قط في تاريخ العالم، وأكد أن المجتمع بدأ، أو أن الدولة بدأت، بإخضاع الأقوياء للضعفاء وتجنيدهم تحت سلطانها. ويضيف هؤلاء النتشيون أن الدولة نفسها أدوات للتنافس، وأن يقاتل بعضها بعضاً سعياً وراء سيادتها على غيرها، وسلامتها، وسلطانها، وثرائها؛ وأن الحرب طبيعية ولا مفر من وقوعها؛ وأن الذي سيسفر عنه هذا الصراع، لا بد أن يتمشى مع قانون الطبيعة الأزلي؛ وهو أن الحق الوحيد هو القوة. ويقاوم الفارابي هذه