للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقرأ كتاب الطبيعة لأرسطو أربعين مرة، وكتاب النفس مائتي مرة، ورمي بالزندقة في بغداد، وارتدى ملابس المتصوفة واعتنق مبادئهم، وعاش كما يعيش طير الهواء. ويقول عنه ابن خلكان إنه "كان أزهد الناس في الدنيا لا يحتفل بأي مكسب ولا مسكن" (٦١).

وسأله سيف الدولة عما يكفيه من المال فقال الفارابي إنه يكفيه أربعة دراهم في اليوم "فأجرى عليه الأمير هذا القدر من بيت المال واقتصر عليها لقناعتهِ ولم يزل إلى أن توفي".

وقد بقي من مؤلفات الفارابي تسعة وثلاثون كتاباً كثير منها شروح لأرسطو وتعليقات على آرائهِ. وقد لخص في كتابهِ إحصاء العلوم علم عصره في الفلسفة، والمنطق، والرياضيات، والطبيعة، والكيمياء، والاقتصاد، والسياسة. وقد أجاب إجابة سلبية صريحة عن السؤال الذي أثار ثائرة الفلاسفة المسيحيين بعد قليل من ذلك الوقت وهو هل الكلي (أي الجنس، والنوع، والصفة) يوجد قائماً بنفسهِ منفصلاً عن الجزئي؟ وقد خدع كما خدع غيره بإلهيات أرسطو فبدل الاصطاغيري العنيد (١) إلى رجل متصوف. وطال به العمر حتى هدأت ثورته العلمية واستمسك بقواعد الدين. وكان في شبابهِ قد جهر بنزعة لا إرادية متشككة (٦٢)، ثم خطا في مستقبل حياته خطوات واسعة، فأعطانا وصفاً مفصلاً للخالق (٦٣) مستعيناً على ذلك بالبراهين التي أوردها أرسطو ليثبت بها وجود الله، والتي استعان بها أكوناس بعد ثلاثة قرون من ذلك الوقت، فقال إن حدوث سلسلة من الحوادث العارضة لا يمكن إدراكها إلا إذا أرجعناها في النهاية إلى كائن لا بد من وجوده لوقوعها، وجود سلسلة من العلل يتطلب وجود علة أولى؛ وسلسلة من الحركات يتطلب محركاً أول غير متحرك؛ والتعدد يتطلب الوحدة.


(١) يريد أرسطو المولود في اصطاغيرا وهي مدينة يونانية على بحر إيجة. (المترجم)