وصفها. فقد قام جماعة من العلماء السنيين وجهروا في شجاعة بقبول حكم المنطق في الجدل القائم، وعرضوا أن يثبتوا بالرجوع إلى العقل صدق العقائد الأصلية. وهؤلاء المتكلمون (المناطقة) في الإسلام يشبهون الفلاسفة المدرسين في أوربا في العصور الوسطى، وقد حاولوا أن يوفقوا بين العقائد الدينية والفلسفة اليونانية كما حاول ابن ميمون ذلك في القرن الثاني عشر بالنسبة لليهود، وتومس أكوناس في القرن الثالث عشر بالنسبة للمسيحية. وظل أبو الحسن الأشعري (٨٧٣ - ٩٣٥) يعلم الناس مبادئ المعتزلة نحو عشر سنين في البصرة، ولكنه انقلب عليهم حين بلغ الأربعين من عمرهِ، وهاجمهم بسلاحهم هم أنفسهم، وهو سلاح المنطق، وسلط عليهم سيلاً جارفاً من الجدل القوي كان له أكبر الأثر في انتصار عقائد أهل السنة. وقد آمن أبو الحسن إيماناً قوياً بمبدأ الجبرية فقال إن الله قدر منذ الأزل كل عمل وكل حادث، وإنه عللها كلها، وإنه يعلو على القوانين والأخلاق، وإنه يصرف شؤون خلقه كما يشاء، فإذا بعث بهم جميعاً إلى النار فليس في ذلك خطأ قط (٥٩).
ولم يرضَ أهل السنة كلهم بإخضاع الدين إلى هذا الجدل العقلي، ونادى كثيرون منهم بمبدأ "بلاكيف" أي أن من واجب الإنسان أن يؤمن دون أن يسأل كيف يكون هذا الإيمان (٦٠)، وامتنع معظم علماء الدين عن الجدل في الموضوعات الأساسية ولكنهم اندفعوا يجادلون في التفاصيل الجزئية لعقيدة اتخذوا مبادئها الأساسية بداية يسلمون بها دون مناقشة.
وهكذا هدأت موجة الفلسفة في بغداد، ولكنها ثارت في الوقت نفسه في العواصم الإسلامية الصغرى؛ فوهب سيف الدولة أبا نصر الفارابي بيتاً في بغداد، وكان الفارابي أول من نبغ وانتشر صيتهُ من العلماء الأتراك. كان مولده في فاراب إحدى ولايات التركستان، ودرس المنطق في بغداد على معلمين مسيحيين