وذلك أن جماعة من اللصوص هاجمته، وأراد هو الفرار، فذكره غلامه بهذا البيت وما يحويه من تفاخر؛ وأراد المتنبي أن يصدق فعله قوله؛ فحارب ومات مثخناً بجراحهِ (٩٦٥)(١٠٢).
وبعد ثمان سنين من ذلك العام ولد في معرة النعمان القريبة من حلب أبو العلاء المعري أعجب شعراء العرب على الإطلاق. وفقد أبو العلاء بصره في سن الرابعة على إثر إصابته بالجدري، ولكنه جد في طلب العلم، وحفظ عن ظهر قلب ما أعجبه من المخطوطات التي وجدها في دور الكتب، وطاف بأنحاء العالم الإسلامي ليستمع إلى المشهورين من العلماء، ثم عاد إلى مسقط رأسه. وكان دخله السنوي خلال الخمسة عشر عاماً التي أعقبت عودته لا يزيد على الثلاثين ديناراً، أي ما يعادل اثني عشر ريالاً أمريكياً في الشهر، يشاركه فيها خادمه ومرشده. وأذاعت قصائده شهرته في العالم الإسلامي، ولكنه كاد يهلك من الجوع لأنه أبى أن يلجأ إلى المديح. وزار بغداد في عام ١٠٠٨ وأكرم الشعراء والعلماء وفادته، ولعله تأثر في العاصمة بآراء بعض المتشككة، وهي الآثار التي تتخلل بعض قصائده. وعاد منها إلى المعرة في عام ١٠١٠ وأصبح فيها من الأغنياء، ولكنه ظل إلى آخر أيامه يحيا حياة الحكماء البسيطة الخالية من جميع مظاهر النعيم. وكان المعري نباتياً إلى أقصى حد، لا يكتفي بالامتناع عن لحم الحيوان والطير بل يمتنع كذلك عن اللبن، والبيض، وعسل النحل؛ فقد كان يرى الاستيلاء على هذه الأطعمة من الحيوان هو النهب بعينهِ. ولهذا السبب أيضاً أبى أن يتخذ شيئاً من اللباس من جلد الحيوان، وعاب على النساء لبس الفراء، وأشار بلبس الأحذية الخشبية (١٠٣). ومات المعري في الرابعة والثمانين من العمر، ويقول أحد أتباعه المخلصين إن مائة وثمانين شاعراً ساروا في جنازتهِ، وإن أربعة وثمانين من العلماء رثوه على قبرهِ (١٠٤).
وأعظم ما يشهر به في بلاد الغرب هو قصائده القصيرة البالغ عددها ١٥٩٢