هذه الثورات المتكررة فوضع تلك السياسة التي تمتاز بها أشور على غيرها من الأمم وهي نقل أهل البلاد المفتوحة إلى بلاد أخرى بعيدة، يمتزجون فيها بسكانها الأصليين امتزاجا قد يفقدهم وحدتهم وكيانهم، ويقلل الفرص السانحة لهم للعصيان. على أن هذه الخطة لم تمنع اندلاع لهيب الثورات، فاضطرت أشور بسببها إلى أن تكون مستعدة على الدوام لامتشاق الحسام.
من أجل هذا كان الجيش أقوى دعامة للدولة وأهم مقوماتها، وكانت أشور تعترف اعترافا صريحا بأن الحكم هو تأميم القوة لذلك فإن ما لها من فضل على قضية التقدم إنما كان في فن الحرب. فهي التي نظمت فرق المركبات، والفرسان، والمشاة، والمهندسين الذين يقوّضون الأبنية؛ وقد وضع الآشوريون لهذه الفرق نظاما يسهل معه تحريكها وتوجيهها من ناحية إلى أخرى في ميدان القتال وكانت له آلات للحصار لا تقل في قوتها عما كان منها عند الرومان، وكانوا يجيدون فهم الفنون الحربية الخاصة بتعبئة الجنود وحركاتهم (٢٢). وكانت القاعدة الأساسية التي تقوم عليها تحركاتهم العسكرية هي السرعة التي تمكنهم من مهاجمة كل قسم من أقسام الجيوش المعادية على انفراد- ألا ما أقدم هذا السر الذي أفاد منه نابليون أعظم الفائدة! وتقدمت صناعة الحديد عندهم إلى حد أمكنهم أن يلبسوا الجنود حللاً حديدية سابغة كحلل فرسان العصور الوسطى. وحتى الرماة وحملة الرماح كانوا يلبسون على رؤوسهم خوذات من النحاس أو الحديد، وأرهاطا محشورة حول الحقوين، ومجنات ضخمة، ونطاقات من الجلد المغطى بأسفاط معدنية. وكانت أسلحتهم السهام والرماح، والسيوف والقصار، والصوالج والهراوات المنتفخة الرؤوس، والمقاذيف والبلط الحربية. وكان أكابر القوم يحاربون في عربات في طليعة الجيش، يقودهم في العادة مليكهم نفسه وهو راكب في عربة ملكية؛ ولم يكن القواد قد تعلموا وقتئذ أن يموتوا في فراشهم (١).
(١) انظر قول العرب في هذا المعنى: وما مات منا سيد في فراشه … (المترجم)