للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

المشردين، ولما أن قبض عليهم كلهم تقريبا، صب عليهم جام غضبه ونقمته، فأمر بأن تقتلع ألسنة الجنود، وأن يضربوا بعد ذلك بالهراوات حتى يموتوا. أما الأهالي فقد أمر بذبحهم أما العجول المجنحة العظيمة، التي شهدت منذ خمسين عاما مجزرة أخرى شبيهة بهذه المجزرة في عهد جده سنحريب. وظلت جيف هؤلاء الضحايا في العراء زمنا طويلا تفترسها الوحوش القذرة والطيور (٣٢).

لقد كان هذا الإسراف في العنف من أكبر أسباب ضعف الممالك الشرقية. ذلك أن الثورات المتكررة لم تكن مقصورة على أهل الولايات، بل إن قصور الملوك وأسرهم كثيرا ما كانت تهب لتقلب بالعنف ذلك النظام الذي قام على العنف، والذي يستند إلى العنف. وكثيرا ما كان نقع الفتنة يثور بين المطالبين بالعرش في أواخر أيام كل ملك، أو حين وفاته، فكان الملك المعمر يرى المؤامرات تحاك من حوله، وكثيرا ما كان يُستعجل موته بقتله. وكانت أمم الشرق الأدنى تؤثر الثورات العنيفة على الانتخابات الفاسدة الزائفة، وكانت الوسيلة التي يتبعونها لسحب ثقتهم من حاكمهم هي القضاء على حياته. وما من شك في أن بعض حروب الآشوريين كانت أمرا محتوما لا مفر منه. فقد كان البرابرة يحيطون بتخوم البلاد كلها، فإذا ما جلس على العرش ملك ضعيف انقض السكوذيون والكمريون أو غيرهم من الهمج على المدن الآشورية الغنية يقتلون وينهبون. ولعلنا نبالغ في كثرة الحروب والثورات العنيفة التي تأججت نيرانها في هذه الدول الشرقية، لأن من نقشوا الآثار من الأقدمين، ومن أرخوا تلك الحوادث من الكتاب المحدثين، قد عنوا بالتسجيل المسرحي للوقائع الحربية، وغفلوا عن انتصارات السلم. إن المؤرخين طالما تحيزوا إلى سفك الدماء، ذلك أنهم قد وجدوه، أو ظنوا أن قراءهم سيجدونه، أكثر لذة لهم من أعمال العقل الهادئة. ونحن نظن أن الحروب في هذه الأيام أقل عددا منها في الأيام الحالية لأننا نحس بفترات السلم الصافية المتألقة، على حين أن التاريخ لا يحس، كما يبدو لنا، إلا بأزمات الحرب المحمومة.