بيزنطية وألمانيا، ومدائن إيطاليا الوسطى والجنوبية، وهزمت العرب على نهر كرجليانو (٩١٦) وانتهى بذلك عصر الفتوح الإسلامية في إيطاليا، وهو العهد الذي دام مائة عام، كادت فيها إيطاليا تصبح ملكاً للعرب. ولو أن روما سقطت في قبضتهم لزحفوا على البندقية، ولو أ، هم استولوا عليها لأطبقت على القسطنطينية قوتان إسلاميتان عظيمتان. ترى إلى أي حد تتعلق مصائر الناس بنتائج الحروب ومصادفاتها!
وخضعت الثقافة الصقلية المتعدد الأصول في أثناء هذه الحوادث الحربية بحكم عادتها إلى الفاتحين الجدد، واتخذت لها طابعاً إسلامياً أبهى وأقوى من طابعهم القديم، واختلط في شوارع العاصمة الإسلامية بانورمس القديمة Panormus أو بالرم العربية، وبالرمو الإيطالية، الصقليون، واليونان، واللمبارد، وكلهم يكره بعضهم بعض من الناحية الدينية، ولكنهم يعيشون معاً صقليين عاديين في عواطفهم، وشِعْرهم، وجرائمهم. وفيها شاهد ابن حوقل حوالي عام ٩٧٠ نحو ثلاثمائة مسجد، وثلاثمائة من معلمي المدارس ينظر إليهم الأهلون بعين الاحترام رغم ما اشتهر به هؤلاء المدرسون-كما يقول العالم الجغرافي-من قلة الذكاء وخفة الأحلام (٣٤). هذا وإن كانت صقلية تستمتع بقسط كبير من المطر وضوء الشمس، فقد كانت تربتها غاية في الخصب، فلما جاءها العرب المهرة وأحسنوا تنظيم أحوالها الاقتصادية جنوا ثمار هذا التنظيم، وأضحت بالرم ثغراً تجارياً عظيماً بين أوربا المسيحية وإفريقية الإسلامية؛ وما لبثت أن صارت من أغنى المدن في بلاد الإسلام؛ وكان حب المسلمين للملابس الجميلة، والجواهر المتلألئة، وفنون الزينة، مما جعل الحياة في الجزيرة تسير سيراً هادئاً في غير عجلة ولكن في غير إسفاف. ويصف الشاعر الصقلي ابن حمديس (١٠٥٥ - ١١٣٢) الساعات التي يقضيها الشاب البالرمي في متعته، ويحدثنا عن قصفهِ ومرحهِ حتى منتصف الليل، وعن اختلاط الرجال والنساء في الولائم والحفلات بعد أن طرد ملك المرح الهموم، وعن