وهو ينتمي إلى أسرة عربية عريقة النسب لكنها قليلة الثراء. وكان يكسب قوته بكتابة المعروضات لمن يريد من الناس أن يتوجه بمطالب إلى الخليفة، ثم أصبح كاتباً في ديوان قاضي القضاة، ولما بلغ السادسة والعشرين من عمره في عام ٩٦٧ اختير لإدارة أملاك عبد الرحمن أكبر أبناء الحكم. ثم تقرب إلى الملكة صبح أم الغلام، وفتنها بمجاملتها والثناء عليها، وأثر عليها بجده وكفايته، وما لبث أن أصبح هو المصرف لأملاكها وأملاك والدها، ولم يمضِ عام واحد حتى عين مديراً لدار الضرب. ومن ذلك القوت أصبح سخياً على أصدقائهِ سخاء جعل حاسديه يتهمونه بالارتشاء والخيانة. واستدعاه الحكم ليحاسبه على ما اؤتمن عليه من المال، وعرف ابن أبي عامر أن المال الذي في عهدته سيكون ناقصاً فطلب إلى صديق له غني أن يقرضه قيمة العجز؛ ثم توجه إلى القصر مسلحاً بهذا السلاح القوي، وواجه به من اتهموه، وانتصر عليهم انتصاراً حمل الخليفة على أن يسند له عدة مناصب تدر عليه المال الكثير. ولما مات الحكم أفلح ابن أبي عامر في تنصيب هشام الثاني ابن الحكم خليفة (٩٧٦ - ١٠٠٩) و (١٠١٠ - ١٠١٣) بعد أبيه وذلك بأن دبر بنفسهِ قتل منازعه في الخلافة، وبعد أسبوع واحد تولى هو الوزارة (٣٢).
وكان هشام الثاني رجلاً ضعيفاً عاجزاً كل العجز عن سياسة الدولة، ولذلك كان ابن أبي عامر هو الخليفة في كل شيء ما عدا الاسم، واتهمه أعداؤه بحق بأنه يحب الفلسفة أكثر مما يحب الدين الإسلامي؛ وأراد أن يلجم ألسنتهم فدعا رجال الدين أن يُخرجوا من مكتبة الحكم الكبرى كل ما يجدونه فيها من الكتب التي تخالف مذهب أهل السنة، وأن يحرقوا هذه الكتب، وبهذه الطريقة الهمجية الإجرامية اشتهر بيت الناس بالتقى والصلاح. وضم في الوقت نفسه أصحاب المواهب العقلية إلى جانبه بأن بسط حمايته في السر على الفلاسفة، وأخذ يرحب بالأدباء في بلاطهِ، وآوى فيه عدداً كبيراً من الشعراء أجرى عليهم