وأفاد ابنه الحكم الثاني (٩٦١ - ٩٧٦) كما يفيد الرجل العاقل الحكيم من هذه الأعوام الخمسين التي حكمها أبوه وبحزم وجدارة، والتي لم يستمتع فيها بقسط موفور من السعادة. وكان في أثناء حكمه آمناً من الخطر الخارجي، والفتن الداخلية، فوجه جهوده إلى تزيين قرطبة وغيرها من المدن؛ وأنشأ فيها المساجد، والمدارس الكبرى، والبيمارستانات، والأسواق، والحمامات العامة، وملاجئ الفقراء (٣٠)، وجعل جامعة قرطبة أعظم معاهد التعليم في زمانهِ؛ وأجزل العطاء لمئات الشعراء والفنانين والعلماء. وفيه يقول المقري المؤرخ الإسلامي:
وكان (الخليفة الحكم) محباً للعلوم مكرماً لأهلها، جماعاً للكتب بأنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله … إن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، وفي كل فهرست عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير. وأقام للعلم والعلماء سوقاً يانعة جلبت إليه بضائعه من كل قطر .. وكان يبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالاً من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه. وبعث في طلب كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني-وكان نسبه من بني أمية-وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه نسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق (١).
وبينما كان الخليفة العالم يعنى بمسرات الحياة ونعيمها، كان يترك تصريف شؤون الحكم، وتوجيه السياسة القومية نفسها إلى وزيره اليهودي القدير حسداي ابن شيروط، ويترك قيادة الجيش إلى قائد نابه مجرد من الضمير تجمعت حول اسمه مادة لكثير من المسرحيات أو القصص الخيالية المسيحية. وقد أسمته هذه الروايات والقصص باسم المنصور، أما اسمه الحقيقي فهو محمد بن أبي عامر.