من عمره، ووجد الأندلس تمزقها الانقسامات العنصرية، والأحقاد الدينية، واضطراب حبل الأمن، ومساعي إشبيلية وطليطلة للاستقلال عن قرطبة. وقبض عبد الرحمن، رغم ما اتصف بع من دماثة الخلق ورقة الحاشية، واشتهاره بالكرم والمجاملة، على زمام الموقف بيد من حديد وقمع فتنة المدن الثائرة، وأخضع أشراف العرب الذين أرادوا أن يحذوا حذو معاصريهم الفرنسيين، فبسطوا على ضياعهم الواسعة الغنية سيادتهم الإقطاعية، ودعا إلى بلاطهِ رجالاً من مختلف الأديان كان يستشيرهم في شؤون الحكم؛ وعقد المخالفات التي يضمن بها توازن القوى بين جيرانه وأعدائه، وأدار شؤون البلاد بجد وعناية بدقائق الأمور، لا يقلان عما كان يتصف به نابليون في هذه الناحية. وكان هو الذي يضع الخطط الحربية لقوادهِ، وكثيراً ما كان ينزل إلى ميدان القتال بنفسهِ؟ وصد غزوة سانكو صاحب نافارا Sancho of Navarra، واستولى على عاصمته ودمرها، وأرهب بذلك المسيحيين فلم يغيروا على بلاده مرة أخرى في أثناء حكمه. ولما رأى في عام ٩٢٩ أن له من القوة ما لا يقل عن أي حاكم في زمانهِ، وأدرك أن الخليفة العباسي في بغداد قد أصبح ألعوبة في يد الحرس التركي، اتخذ لنفسهِ لقب خليفة-وأمير المؤمنين، وحامي حمى الدين. وقد ترك وراءه بعد وفاته نبذة كتبها بخط يده قدر فيها قيمة الحياة البشرية تقديراً غير مبالغ فيه:"مضت خمسون سنة منذ توليت الخلافة فتمتعت بما لا يزيد عليه شيء من الثراء والمجد والنعم، فاحترمني الملوك وخافوني وحسدوني وحباني الله بأقصى ما يرغب فيه الإنسان، فأحصيت أيام السرور التي صفت لي دون تكدير في هذه المدة الطويلة فكانت أربعة عشر يوماً، فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها"(١).
(١) من كتاب نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب للمقري. (المترجم)