حكمه يناقض هذا الحكم؛ فالمقري (١٥٩١ - ١٦٣٢) يرى أن هذا المسجد لا يدانيه مسجد آخر في سعته، أو جمال تخطيطه، أو نظام زخرفته الذي يشهد للقائمين به بحسن الذوق وبما يدل عليه من قوة وعظمة (٦٥)، ولا يزال البناء حتى في شكله المسيحي المصغر يعد "بالإجماع أجمل المساجد الإسلامية في العالم كله"(٦٦).
وكان من الأقوال المتداولة في بلاد الأندلس الإسلامية أنه "إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها" وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية" (١). ذلك أن قرطبة كانت في القرن العاشر مركز الحياة الذهنية الأسبانية ذروتها، وإن اشتركت معها طليطلة، وغرناطة، وإشبيلية فيما وصل إليه ذلك العصر من رقي عقلي عظيم. ويصور المؤرخون المسلمون المدن الأندلسية تموج بالشعراء وجهابذة العلماء في العلوم الطبيعية، والأدبية، وكبار المشترعين، والأطباء؛ ويملأ المقري بأسمائهم ستين صحيفة (٦٨). وكانت المدارس الابتدائية كثيرة العدد، ولكنها كانت تتقاضى أجوراً نظير التعليم، ثم أضاف الحكم إليها سبعاً وعشرين مدرسة لتعليم أبناء الفقراء بالمجان. وكانت البنات يذهبن إلى المدارس كالأولاد سواء بسواء، ونبغ عدد من النساء المسلمات في الأدب والفن (٦٩)، وكان التعليم العالي يقوم به أساتذة مستقلون يلقون محاضراتهم في المساجد، وكانت المناهج التي يدرسونها هي التي كونت جامعة قرطبة ذات النظام المفكك، والتي لم يكن يفوقها في القرنين العاشر والحادي عشر إلا جامعتا القاهرة وبغداد الشبيهتان بها. وأنشأت الكليات أيضاً في غرناطة، وطليطلة، وإشبيلية، ومرسية، والمرية وبلنسية، وقادس (٧٠).
(١) قيل هذا في مناظرة جرت بين منصور بن عبد المؤمن وبين الفقيه العالم ابن رشد والرئيس ابي بكر بن هير وقائله هو ابن رشد نفسه وقد قدم المؤلف عجز العبارة على صدرها. (المترجم)