في المدرسة النظامية الكبرى ببغداد؛ وسرعان ما أعجب العالم الإسلامي بفصاحته، وغزارة علمه، وبراعته في الجدل. وبعد أن قضى في هذا العمل ثلاث سنين طبقت فيها شهرته الآفاق أصيب بمرض غريب أقعده عن العمل وأفقده شهوة الطعام والشراب والقدرة على الهضم؛ وكان شلل لسانه يشوه منطقة في بعض الأحيان، ثم بدأت قواه العقلية تنهار. وشخص طبيب ماهر مرضه بأنه في الأصل مرض عقلي. وقد أقر الغزالي في ترجمته لحياته بأنه لم يعد يؤمن بقدرة العقل على فهم أسرار الدين الإسلامي، وأنه لم يكن يطيق ما في دروسه الدينية من نفاق. وغادر الرجل بغداد في عام ١٠٩٤ يريد الحج إلى بيت الله الظاهر، ولكنه في الحقيقة كان يريد اعتزال الناس، وينشد الوحدة والصمت، والهدوء وإطلاق العنان للتفكير والتأمل. ولما عجز عن أن يجد في العلم ما يطلبه من عون يعيد إليه إيمانه المتداعي، انقلب من التفكير في العالم الخارجي إلى تأمل العالم الداخلي، معتقداً انه سيجد في هذا العالم من أقرب سبيل تلك الحقيقة الخالدة وهي القاعدة الثابتة الأكيدة للإيمان بعالم الروح. وتعرض بالنقد الشديد لعالم المحسوسات-وهو عماد النزعة المادية وأساسها، وفقد الثقة بالحواس واتهمها بأنها تجعل النجوم تبدو ضئيلة مع أنها بلا ريب أكبر كثيراً من الأرض، وإلا لتعذرت رؤيتها من بعدها الشاسع؛ واستخلص من هذا المثل ومن مئات غيره من الأمثلة أن الحواس وحدها ليست طريقاً موثوقاً به موصلاً إلى الحقيقة. وأما العقل فهو في رأيه أرقى درجة من الحواس وهو يصحح ما يصل إليها عن طريق إحداها بما يصل إليه عن طريق الأخرى، ولكنه هو الآخر يعتمد في النهاية على الحواس نفسها. فها عند الإنسان نوع من المعرفة، يهديه إلى الحقيقة، أصدق من العقل وأوكد؟ وأحس الغزالي بأنه قد عثر على هذا النوع من المعرفة في تأمل الصوفية الباطني: فالصوفي يقترب من سر الحقيقة المكنون أكثر مما يقترب منه الفيلسوف؛ وأرقى أنواع المعرفة هو التأمل في معجزة العقل حتى يظهر