الله للمتأمل من داخل نفسه، وحتى تختفي النفس ذاتها في رؤية الواحد (٧٨).
وبهذه النزعة وهذا الزاج كتب الغزالي أعظم كتبه كلها تأثيراً ونعني به كتاب تهافت الفلاسفة واستعان فيه على العقل بجميع فنون العقل، فاستخدم الصوفي المسلم الجدل الفلسفي الذي لا يقل دقة عن جدل كانت Kant ليثبت أن العقل يؤدي بالإنسان إلى التشكك في كل شيء، وإلى الإفلاس الذهني، والانحطاط الخلقي، والتدهور الاجتماعي. وأنزل الغزالي العقل-قبل أن ينزله هيوم Hume بسبعة قرون-إلى مبدأ العلية، وأنزل مبدأ العلية نفسه إلى مجرد التتابع إذ قال إن كل ما ندركه هو أن ب تتبع أعلى الدوام ولا ندرك أن أهي علة ب. ومن أقواله أن الفلسفة، والمنطق، والعلوم لا تستطيع قط أن تثبت وجود الله، أو خلود الروح بل إن الإلهام المباشر هو وحده الذي يؤكد لنا هاتين العقيدتين اللتين لا قيام بغيرهما لأي نظام أخلاقي، وهو النظام الذي لا قيام لأية حضارة إلا به (٨٨).
وعاد الغزالي في آخر الأمر عن طريق التصوف إلى العقائد الدينية السليمة جميعها، وعاد إليه كل ما كان يساوره في شبابه من مخاوف وآمال، وجهر بأنه يحس بعيني إله قاهر قريبتين من رأسه تتوعدانه وتنذرانه، وأخذ ينذر الناس من جديد بأهوال الجحيم يؤكد أن دعوته هذه لا غنى عنها لتقويم أخلاق العامة (٨٩)، وعاد إلى الإيمان بكل ما جاء به القرآن والحديث، وقد شرح في كتابه إحياء علوم الدين هذه العودة إلى عقائده الأولى، ودافع عنها بكل ما كان له في شبابه من قوة وحماسة أصبح بهما أقوى عدو للمتشككة والفلاسفة الذين لم يواجهوا من قبله عدواً أشد منه عنفاً. ولما توفي في عام ١١١١ كانت موجة الإلحاد قد ردت على أعقابها، واطمأنت جميع قلوب المؤمنين المتمسكين بالدين، بل إن رجال الدين المسيحيين أنفسهم قد أثلج صدورهم ما وجدوه في كتبه، بعد أن ترجمت إلى اللغات الأجنبية، من دفاع حار عن